الفيلم الوثائقي في العصر الرقمي

كمال شاهين

ذاكرة ما قبل الأنترنت:

امتلأت الذاكرة بالكثير مما يجعل إنسان اليوم محاصراً من مشرق حياته حتى مغربها بدفق خرافي لكل ما يجري في المعمورة من ثرثرات وكتابات وحكايات وأحداث وصور وأمور تفوق الخيال واقعية.  

قبل مئة عام وعقد تقريباً ابتكرالفرنسيان الأخوين (لوميير)  الأفلام التسجيلية السينمائية، وصورا فيها أول فيلم تسجيلي في التاريخ  بعنوان: (الخروج من مصانع لوميير، وصول القطار إلى محطة لاسبوتات)، وكان هذا الفيلم القصير جداً (دقيقتان وبضع ثوان) إشارة الانطلاق الإنساني إلى نوع جديد من التوثيق للانسان وحياته، وأضيف إلى عالم الإنسان نوع جديد من الذاكرة لا يكتفي فقط بالصورة بل ترافقها الحركة، وبعد بضع عقود جاء الصوت (حوالي 1960) ثم تدفقت الألوان العالية الجودة وتقنية الدوبلي سيتسم، حتى وصلنا اليوم إلى كاميرا المحمول (HD) وبرامج معالجتها على الحاسب، وهكذا بقرن واحد تغيرت الصورة التي بدأت فيها الأفلام الوثائقية مشوارها  تغيراً فظيعاً.

عبر القرن الماضي سجلت السينما الوثائقية ذاكرة القرن العشرين بكاملها تقريباً، وفي مختلف بقاع العالم، حتى تلك البعيدة نسبياً عن التكنولوجيا، فعلى سبيل المثال سجلت الكاميرا  في أحد أجمل إبداعاتها فيلماً وثائقياً بعنوان (مذكرات وطن) ينطلق من مطلع القرن والاستقلال العربي عن الدولة العثمانية وصولاً إلى لحظات الجلاء في سورية عام 1946، وفي تونس التي كانت تحت الاحتلال الفرنسي أيضاً جاء أحد معاوني الأخوين "لوميير" عام 1896وصور اثني عشر فيلماً تسجيلياً، وفي" مصر" ظهرت دار للعرض السينمائي في الإسكندرية لأحد الفرنسيين اسمه "دو لاجارن" حيث كان يلتقط بكاميراه السينمائية الكثير من المناظر للناس العاديين والآثار المصرية وكان يعرض هذه الأفلام في دار العرض، وعلى الصعيد العالمي مثلاً تم تسجيل آلاف الأفلام عن الحرب العالمية الثانية، ففي أمريكا قام المخرج الأمريكي "فرانك كابرا" بإخراج سلسلة أفلام تسجيلية بعنوان "لماذا نحارب ؟"، وفي بريطانيا تم إنتاج العديد من الأفلام التسجيلية الدعائية من أشهرها "لندن تستطيع أن تنتصر" عام 1940، وحتى تفجير "هيروشيما" تم توثيقه بدقه.

هذه النقلة النوعية في توثيق الذاكرة البشرية أعطت السينما التسجيلية شهادة خوّلتها الحصول عام 1956على السعفة الذهبية في مهرجان "كان" عن الفيلم الفرنسي "عالم الصمت"  للمخرجين "جاك إيف كوستو" و "لوي مال"، ثم تكاثرت الجوائز الدولية لهذا النوع من الأفلام، لتخصص لاحقاً مهرجانات عالمية له ويحتفى به لتتحقق مقولة عالم الاجتماع الفرنسي "إدجار موران" في أن هذا النوع من السينما هو "اقتناص أصالة الحيلة كما هي معاشة في الواقع".

في عقدي  الستينيات والسبعينيات ومع اشتداد أوار الحرب الباردة في العالم تحول الفيلم الوثائقي إلى أداة مهمة في ذلك الصراع، فكانت المشاهد القادمة من "كوبا" لثورة "تشي غيفارا"  تلهب الناس في مختلف أصقاع الأرض، وفي دول الجنوب تحديداً كانت وثائقيات مخرجي أميركا اللاتينية مثل " أوكتافيو جيتينو، وفرناندو سولاناس" قد تحولت إلى إيقونات.

وفي العالم العربي شهدت الصور والوثائقيات القادمة من "أفغانستان" في مرحلة الجهاد الأفغاني صدى واسعاً وكانت شديدة الأهمية في تعبئة الشباب العربي ضمن هذه التيارات الجهادية.

بقيت الأفلام التسجيلية العربية كما شقيقتها الأجنبية خاضعة بشكل كبير للممولين، وفي مطلع القرن الحالي، حقق الفيلم الوثائقي قفزته النوعية الحقيقة مع ظهور أفلام هزت العالم ودخلت صالات العرض السينمائي بشكل حقيقي، وشكل فيلم "مايكل مور" “فهرنهايت 9/11” الذروة، فقد لقي إقبالاُ جماهيرياً هائلاً على الصعيد العالمي ونافس عام 2009على أعلى إيرادات السينما الأميركية، كذلك فيلم "القطط الإفريقية" و"كوكب البطاريق" وغيرها.

ذاكرة ما بعد الأنترنت:

مع ظهور شبكة الانترنت وامتدادها إلى مختلف بقاع العالم، ظهرت مواقع إلكترونية متخصصة في عروض الأفلام والأفلام التسجيلية الملتقطة من قبل الناس العاديين وليس فقط من قبل مخرجين محترفين، والبداية كانت مع الموقع الأشهر (YouTube) الذي بدأ بداية متعثرة بسبب حقوق الملكية، ثم تجاوز المشاكل الكثيرة التي اعترضته لتشتريه جوجل قبل أعوام بمبلغ خرافي، التطور التالي حدث مع ظهور كاميرات الخليوي العالية الدقة التي تتيح تصوير المشاهد ورفعها مباشرة إلى المواقع لعرضها، أو نقلها إلى الحاسب لمنتجتها وإضافة الموسيقا التصويرية والترجمة إن لزمت وغير ذلك.

بدأت الأفلام التي تصور عبر الخليوي بالانتشار على الشبكة العنكبوتية بكثافة مع بدء أحداث ربيع أوروبا الشرقية ما بعد سقوط النظام الاشتراكي هناك، وقد حصدت المشاهد التي صورها هواة لحركات الاحتجاج ورفعوها على كثير من المواقع الإلكترونية مشاهدين كثر، ليتكرر السيناريو في ما سمي "الربيع العربي" من "تونس" غرباً إلى"سورية" شرقاً، وبات مصطلح "فيلم مخصص للعرض على الأنترنت" منتشراً بكثافة، ولم يعد الأمر  يحتاج إلى مونتاج أو تقنيات إضافية وانما تصوير الحدث، ورفعه مباشرة إلى أي موقع إخباري .

وللمرة الرابعة تغيرت طبيعة الفيلم التسجيلي أو الوثائقي كما يحلو للبعض تسميته، فقد أصبح أداة لا تستطيع الحكومات التحكم بها بأي شكل كان، وتحرر الفيلم نفسه من ربقة التقنية ليصبح الموضوع فيه هو الأساس والمعيار الثاني هو المشاهد الذي يراه، وبالمقابل انتشرت كذبة "الصورة" التي أخرجت الفيلم الوثائقي من واقعيته إلى واقعية مضادة تستخدمه لتحقيق غايات تسمي نفسها نبيلة، على أنه لا بد من الاعتراف أن هذه الأفلام خلخلت كثيراً أعتى الأنظمة السياسية حول العالم.

بعض المخرجين السينمائيين لا يعتبرون هذه الأفلام في خانة الفيلم الوثائقي، بل يدخلونها باب الأدوات السياسية التي تموت بنهاية الغاية المطلوبة منها، بالتالي ليست من التوثيقيات بالمعنى الفكري والثقافي، ولهذا السبب وغيره تصنف ضمن باب "أفلام الويب المؤدلجة".

بقي الكثيرون على وفائهم للتعريف الأساسي للفيلم الوثائقي، فهو ذاك الفيلم خارج الأدلجة السياسية المنتمي إلى الإنساني في حقله العام، قد تكون تحذيراً وقد تكون تاريخاً، المهم أنها تلامس بذوراً إنسانية.

مع تطور التقنية تغيرت كذلك الرؤى التي يمكن بها التعامل مع الفيلم الوثائقي، وتطرح اليوم عبر العالم أنواع جديدة تستفيد من التقنية بما يجمع إلى مكونات الفيلم الفنية مكوناته الاجتماعية، أي خلف نوع من التفاعلية مع الجمهور اللاحق، فتوجد اليوم مواقع متخصصة في الأفلام التفاعلية Interactive Documentaryالتي تنتج نسختها الأخيرة بالتفاعل بين كاتب السيناريو والمصور والمخرج والجمهور، أي أن الصورة التقليدية للفيلم الوثائقي قد تغيرت هي الأخرى لتصبح أكثر اقتراباً من الجمهور بدرجة كبيرة، يخرج الفيلم من مختبره الافتراضي ذاك ليعرض في المهرجانات وفي المسابقات الدولية وهو متأكد من أنه قد تجاوز الكثير من العقد في التعامل مع الآخر في ذاكرته وفي تشكيل حضوره في منعطفات الفيلم، ولهذا السبب تسمى هذه الأفلام بالأفلام المتعرجة unlinear filmحيث يمكن إيقاف الفيلم عند مفصل منه (مشهد ذي فاعلية معينة) والتدقيق بما يحتويه المشهد والتأكد منه (توثيقياً مثلاً)، وهذه العملية التي تنفذ بالتعاون مع الجمهور الافتراضي هي عملية أكثر تركيبية وأكثر متعة لمحبي السينما من المشاهد المتواصلة التي يختار المخرج صيرورتها النهائية، ويتوقع أن تصبح هذه العملية جزءاً من "وثائقيات الويب".

المصادر:

• Inge de Leeuw, The 6 Most Innovative Interactive Web Documentaries

• Faye Ginsburg, Rethinking Documentary in the Digital Age.