اللغة المسرحية .. بين التأصيل وإيصال المعنى (3)
كسار مرعي – الحسكة
انطلاقاُ من مشكلة الحوار التي فرضت نفسها على الحالة المسرحية العامة، والايقاع المتسارع الذي انتشرت به، لا يمكن لأحد أن ينكر أن استخدام اللغة الفصحى لم يقضِ على العامية التي تمكنت من ايجاد موطن قدمٍ لها في الوقت الراهن، لكن محاولات بعض الكتُّاب والنقاد في تحجيم انتشارها ما زالت مستمرة؛ لتعود اللغة الفصحى سيدة الموقف ويرجع إليها ألقها الذي طالت منه العامية بعض الشيء.
وعلى الرغم من المحاولات التقريبية التي جرت لتسيير اللغة المسرحية بالوجهة الصحيحة، وتوحيد اللغة على خشبات المسارح من خلال التزاور وتبادل الخبرات، بقي الانقسام بين فريقٍ يطالب بفصحنة المسرح وآخر يحاول أن يقحم العامية، نزولاً عند وطأة المتغيرات التي فرضتها عمليات الإبدال في اللغة العربية الفصحى، والتي ساهمت وسائل الإعلام في نشرها وترويجها وتمتين أواصرها، فبقي الكاتب يعيش في رهبة المتغيرات؛ التي أثرت على ازدهار المسرح وانتشاره، إلا أن الرأي الراجح للمعتدلين يُصر على أن لغة المسرح لن تخرج من عباءتها لتلبس أثواباً أخرى، وتُطلق العنان لانتشار اللهجات على حساب اللغة الأم.
الكاتب والمخرج المسرحي "اسماعيل خلف" تابع الحديث مع المفكرة الثقافية وقال: «"لغة المسرح هي لغة المسرح" بمعنى أن للمسرح لغته الخاصة؛ بغض النظر عن جنسية اللغة وماهيتها سواءً كانت عربية أو غربية، وبغض النظر عن شكلها الذي كتبت به سواءً شعراً كان أو نثراً وحتى إن كانت فصحى أو عامية، لأنها لغةٌ حية متجددة فهي بالمحصلة لغةٌ منطوقة وليست مقروءة، كما أنها لغةٌ مسموعة وليست منظورة؛ وإذا سلمنا بداهةً بأن للحوار المسرحي لغته الخاصة، أصبح لزاماً علينا وبالقدر نفسه التسليم بأن هذه اللغة متحركة وليست جامدة؛ متغيرة وليست ثابتة، فالموضوع الذي لا يعالج إلا بالشعر غير الموضوع الذي يعالج بالنثر، والشخصية التي تتحدث بالفصحى هي غير التي تؤدي دورها بالعامية، هنا لن يوجد فرقٌ بين النص المؤلف والمترجم، وذلك لأن مشكلة الفصحى والعامية تكاد تكون كما يعلم الجميع خاصةٌ بلغتنا العربية، لسبب بسيط هو أن كل الدول العربية تعرف لغة فصحى واحدة ذاتُ قاموسٍ موحد، بينما تختلف العامية من بلدٍ لآخر داخل نطاق الأمة الواحدة، فضلاً عن الاختلاف الكلي كتابةً ونطقاً بين الفصحى والعامية رغم وحدة الحرف ودلالاته؛ وهي مشكلةٌ لا تعرفها أي لغة أخرى في العالم، ما يضع الأمر على مائدة نقاش المهتمين باللغة، وبالعودة إلى الاختلاف بين اللغة الرسمية والشعبية فالاختلاف بينهما لا يكاد يذكر، وبالتالي فهو لا يؤثر ولا يتأثر لذا فمن المطلوب أن يتم توحيد اللغة ليُصار إلى تجسير الهوة التي يعاني منها المسرح».
هذه الأمور والمتغيرات خلقت مشكلةً كبيرة فأين تكمن؟
يتابع "خلف": «تتعقد المشكلة على الكاتب العربي، وذلك لبعد الفارق واتساعه بين الفصحى والعامية من جهة، ومن جهةٍ أخرى بسبب التفاوت الكبير بين العاميات العربية المتداولة ضمن الأقطار العربية، لكن يجدر القول أن اللهجة العامية التي ينطقها أي شخص في أي مكان من العالم العربي، تكون مليئة بالاقترانات والايحاءات؛ التي تملاً منه الوعي واللاوعي فإذا سمع حواراً ما لن تجد منه الانفعال المطلوب إلا إذ ا كان الحوار بلهجته، هذا لا يعني أن المصري لا ينفعل لما يقوله السوري على الإطلاق، لكن انفعاله سيكون من الدرجة الثانية، وهذا الانفعال يعتبر الأقرب من إلى من يستمع إلى حوار بغير لغته، أي بلغةٍ اتقنها عبر التعلم لكن هذا الاتقان لما يصل إلى حالة الإحساس، وهنا يجدر بنا التوقف عند تفاوت اللهجات العامية، فهذا التفاوت خلق نوعاً من السيطرة عكسه اتساع الانتشار، فباتت اللهجات العربية تحتل مراتباً من حيث الفهم والتداول وحتى التقليد، ويمكن القول إن اللهجة المصرية الحالية تحتل المرتبة الأولى، وقد ساعدها في تحقيق هذه المرتبة عدد من العوامل الموضوعية، وكذا الحال مع اللهجة الدمشقية إذا صح التعبير، التي تمكنت من الانتشار عبر الدراما التي أضحت بمثابة السفير إلى أقطار العالم العربي».
ويختم حديثه بالقول: «"المصرية أم اللهجات" وهذا المنصب لم يأتِ من فراغ، فهي الأقرب إلى كل الشعوب العربية، وقد ساهم في تصدر هذه اللهجة ضخامة الانتاج السينمائي والدرامي، حيث تمكنت في فترة من الفترات من الوصول إلى كل الأمصار، ما ساهم في تربعها على عرش اللهجات العربية، لكن على الرغم من انتشارها الكبير لم نرَ أي فرقةٍ مسرحية عربية عمدت إلى تقليد المحكية المصرية إلا وبدت في موقفٍ مضحك، وهذه المشكلة لن يحلها إلا الزمن، لأن المحكيات في البلدان العربية تخضع لقوانين التأثر الذاتي، وإلى ذلك الوقت سيبقى المسرحيون في محاولاتٍ حثيثة للبحث عن طريقٍ وسط لتوحيد الخطاب المسرحي، وقد بدأت هذه الحركة تنشط على يد بعض الكُتّاب منهم "توفيق الحكيم"، عندما كتب مسرحية الصفقة التي جعلها فصحى إذا ما تم إعراب مفرداتها؛ وعاميةً إذا ما أهمل الإعراب، وهو أول الطريق للتحول المعرفي في اللغة وبداية النهاية بالنسبة لسطوة اللهجات وانتشارها».