اللغة المسرحية .. بين التأصيل وإيصال المعنى(5)
كسار مرعي – الحسكة
بعد الاعتراف بأن مسرحنا العربي بات بحاجةٍ كبيرة للغةٍ مسرحية؛ تجمع بين بيان الفصحى ومتانتها وعراقتها ووجهها الحضاري، وبين مرونة اللهجة العامية وحيويتها وسلاستها وقربها من الناس، كان لا بد من دراسة المسرح السوري على صُعدٍ مختلفة، للوقوف على كيفية تطويره وتقديمه بالشكل الأمثل، ومعرفة وقوفه إلى أي طرف من الأطراف الفاعلة في عالم الإبداع.
من هنا كان لزاماً أن نسوق بعض التجارب التي خاضها المسرح السوري؛ والتي تعد محاولةً لا يُستهان بها لوضع بصمة في التاريخ المعاصر للمسرح، خصوصاً وأن القضية المسرحية اللغوية باتت تُشكل هاجساً عند الكثيرين ممن امتهنوا هذا الفن، في وقت وصل فيه عدد غير قليل من المسرحيين إلى مفترق طرق؛ لعبت فيه اللغة الفصحى واللهجة العامية دور شرطي المرور الذي يحدد الاتجاهات.
ومع استعراض الواقع الحالي للمسرح العربي وصل معنا الكاتب والمخرج المسرحي "إسماعيل خلف" للحديث عن المسرح السوري وتجلياته وتابع حديثه للمفكرة الثقافية قائلاً: «قد يكون من المجدي أن يُدرس التأليف المسرحي في "سورية" على مستويين، أو من خلال منظورين اثنين لا من منظورٍ واحد، ذلك لما يتميز به هذا المسرح من طبيعة متفردة، فمن المنظور الأول يعامل المسرح معاملة الأدب شأنه في ذلك شأن الأجناس الأدبية الأخرى كالشعر والقصة، ومن المنظور الثاني المسرح يتم التعامل معه كفنٍ مشخّص متمثل في العرض المسرحي وهو الطريق لتلمّس العلاقة التي قامت؛ بين النص المسرحي المؤلف وبين المسرح، وهنا لا بد من الإشارة إلى ملاحظةٍ هامة ظهرت في وقت سابق؛ فبينما كان رائد المسرح العربي "أحمد أبو خليل القباني"، يكتب نصه المسرحي كي يتجسد على خشبة المسرح، كما كان الحال في الماضي مع "موليير وشكسبير"، فإن الكاتب المسرحي المعاصر لا يمتلك القدرة؛ أو أنه لا يقوى على التأثير في فريقٍ مسرحي لتقديم نصه على خشبة المسرح، إلا في حالاتٍ استثنائية وهذا الأمر يعني اعترافنا بأن النص المسرحي؛ لا تتجلى أهميته الفنية والأدبية والوظيفية، إلا بتجسيده فعلاً مرئياً محسوساً على الخشبة المسرحية، بحيث يصل إلى الآخرين عبر العين والأذن والاحساس العام، هذا الاحساس الذي يرتبط بالحياة السائدة وبالذاكرة الثقافية؛ وباللغة التي تستطيع أن تصل للمتفرّج سواءً كانت فصحى أو عامية».
شخ الكار "فرحان بلبل" كان له رأيه في ما آل إليه المسرح بحسب "خلف": «يقول الفنان الكبير "فرحان بلبل" إن استيراد المسرح الغربي كما هو أسلوبٌ خاطئ وغير مجدٍ، لأن المسرح في الدرجة الأولى يعبّر عن التراث الأدبي للمجتمع قبل أن يتحول إلى فعلٍ محسوس ومرئي، ومهما بلغ النص الأجنبي من قربه منا فإنه يظل بعيداً عنا، وبالتالي سيبقى هناك فاصلٌ بين الجمهور والمسرح، أما الكاتب العربي فهو الذي يصنع الواقع أمامنا؛ مقترباً من عقولنا وقلوبنا ويحقق وقتها صياغة شخصيةٍ دراميةٍ من جزئيات الحياة اليومية، علماً أننا قدمنا نصوصاً أجنبية بعد اعدادها؛ لتحقق ما يحققه النص العربي أو السوري، وهناك المئات من النصوص المسرحية التي كتبت باللغة العربية، لكننا نرفض ما يسمونه "مسرح الفكر"، ذلك المسرح الذي يُكتب ليُقرأ ولا يمكن تجسيده على الخشبة، فما الفائدة أصلاً من كتابته إذ لم يتمكن الكاتب من تقديمه للجمهور، وقياس مدى تأثر الجمهور به».
«إن النص المسرحي يُكتب ليُجسد قولاً وفعلاً على الخشبة المسرحية، وتسقط المقولة المخادعة التي تقول "إن الجمهور لا يفهم"، فحين نستعرض تجربتنا في كل العروض المسرحية، التي كان معظم جمهورها من البسطاء والعمال والفلاحين، نرى أنهم أظهروا تفاعلاً وتعاطفاً وتفهماً كاملاً للمسرح الجاد، هذا المسرح الذي يعتمد لغةً مسرحيةً عربية فصحى، وهذا يعزز عقيدتنا بأن الجمهور يفهم ولكنه لا يعرف، وعلى رجل المسرح أن يقدم له المعرفة الحقيقية في مختلف المجالات، عن طريق كتابة نصوصٍ مسرحية تنبذ الألاعيب المسرحية المربكة للذهن، من خلال اتباعها أسلوباً قائماً على التبسيط والوضوح، ولذلك فإن الكثيرين من النقاد يستنكرون بساطة عروضنا المسرحية، التي حاولنا من خلالها الوصول إلى مركز الإحساس عند المتلقي، والحقيقة أن هذه البساطة هي التي جعلت أعمالنا تنفذ إلى عقول الناس وقلوبهم، ونحن بلا جدلٍ نرفض اللهجة العامية ونعتمد اللغة الفصحى، لأن العامية لا يمكنها أن تخلق تراثاً مسرحياً».