النحات الراحل "أكثم شلغين".. إضاءات زيتون أيلول
في ذكرى رحيله الثانية
كمال شاهين ـ المفكرة الثقافية
لأيلول السوري حكايته الموجعة منذ حَمَل "بعل" معوله واختفى في غيابة "جب الحياة"، لتندبه "عشتار" وتخرجه إلى شغف الحياة إياها بعد "ولولة" لا يزال صداها يتردد في الحواري السورية حتى لحظتنا القاتمة هذه.
"أيلول"، شهر الفقدان، فيه يغيب الأحبة، وفيه تذهب كائناتنا الجميلة إلى الغياب مترعة بالحلم بأنها تركت على هذه الأرض "ما يستحق الحياة"، كذلك فعل النحات السوري "أكثم شلغين" قبل عامين من أيلولنا هذا، حمل دفاتر غيابه ومضى بدون وداعات ولا انتظارات لأمطار "حواكير بسنادا"، وهي تغسل عن روحه ثقل الوجع وعبء الانتظار، لمجد سيأتي متوجاً صهوة الإبداع، صاعداً طريق جلجلة "النحت"، وحاملاً صليبه من خشب "الزيتون"، تلك الشجرة التي أضاء بمنحوتاته زيتها وزيتونها وخشبها عتمات كثيرة مخبأة في دواخلنا.
لم يستطع "أكثم" خريج كلية الاقتصاد، والمولود في "بسنادا" عام 1968، أن يقيم في حياته معرضاً فردياً، في حوارنا الأخير معه قبل عامين ونيف من الآن، حكى الرجل كثيراً عن أوجاعه، ولم يكن حديثه حديث أوجاع فردية، فكلنا نحمل من هذا الشيء الكثير، تحدث وقتها مطولاً عن ثقل الإبداع على من لا يملك وسيلة لإيصال ما يبدع إلى الناس، وتحدث عن مشروعه الفني بلغة العاشق، كان لديه مجموعة من الأعمال التي يشتغل عليها بنية أن تساعده جهة ما في إقامة أول معرض له، وتشاء الأقدار أن يكون أول معرض له هو آخر معرض ولكن بعد رحيله الفاجع في 16 أيلول 2012 إثر ذبحة قلبية لعينة.
اشتغل "أكثم" على تقديم أعماله بخشب الزيتون، محاولاً خلق فارق عن التجارب المماثلة، نجح في بعض هذه المحاولات وأخفق في بعضها الآخر، في الحالين استطاع أن يكون لنفسه هوية مبكرة ساعده على بنائها الارتكاز على قراءة اللوحة الفنية في امتدادها البصري على مجمل الكتلة، ويتشابه في هذه مع عديد نحاتين أساتذة استعملوا الخشب في أعمالهم، "سعيد مخلوف"، "مصطفى علي"، و"عيسى بعجانو"، وغيرهم.
في قراءات أصدقاء له عاصروه وعاشوا معه إنساناً وصديقاً، يتفوق أكثم الإنسان كثيراً.
ضحكته كادت ألا تفارقه، على النقيض من منحوتاته التي تفيض حزناً وكآبة، وإن كان يرفض هذا الوضوح.
أغلب أعماله جدارية ببعد فراغي واحد، يقول "أكثم": "العمل الفنيّ يجب أن تراه وجها ً لوجه، حتى في العمل الرباعي الأوجه ستنظر إليه من زاوية واحدة، قبل أن تدور حول العمل أو يدور حولك، لذلك أختصر مرحلة اللف والدوران وأقول لك ما أريد في وجهك، فعليك أن تلتقي بالعمل الفني كما التفاؤل بالموت، كما التقاؤك بحبيب أو صديق رأيته للتو".
كان أكثم يرى النحت عالمه الذي لايني يتشرب مسامات روحه، بين التشجيع القليل والإحباط الكثير عمل الراحل على تكوين منحوتاته برؤية ترسم في الفراغ معالم ما يدور في رأسه من صراعات فكرية وإنسانية، يستحضر الوجوه كثيراً في مختلف حالاتها الوجودية، وتحضر المرأة لكي تمتص هذا الحضور وتعيد بناء العالم الفني له بلغتها هي، يقول الراحل في حديث له: «التصاق الذكر والأنثى و الارتباط بينهما، يصل لمرحلة تغييب الذكر من قبل الأنثى رغم محاولته العشق و الاقتران و المساواة، فالأنثى بحضورها الأقوى و خصوبتها الأنضج، وأحياناً تكون الأنثى عبء، فهي في الواقع غير موجودة كما نحلم بها، وهي توصلني لحالة التناقض مع نفسي فتارة تجعلني إنساناً متوحشاً و هنا تفرض أحاسيسها لتسيطر على المبادئ و تجعلني همجياً فتدمر المبادئ تلك هي الأحاسيس المتناقضة, و أنا حريص على الأنثى كخصب سواء مجازاً أو واقعاً».
لم يخرج الراحل عن الاشتغال في عوالم الوجوديات، الإنسان الحاضر بكثافة في مختلف تنويعاته، الذكر والأنثى وتحولات العلاقة بينهما، لتظهر في مراحل أعمال الأخيرة رمزية "السمكة"، التي أراد بها تحقيق حالة ارتقاء للحلم إلى عوالم أخرى يتواصل بها مع المادة الخام في تحولات جديدة.
يقول النحات "فراس علاء الدين": «شهادتي بأكثم مجروحة، فهو صديقي وابن قريتي، وزميل دراستي، أكثم من التجارب الفنية الفذة التي كانت في اللاذقية، خطفه الموت سريعاً، كان شخصاً شفافاً وحالماً جداً ورقيقاً، حاول أن يجسد الأحلام التي كانت تراوده منذ الصغر عبر أعماله بأبعاد ثلاثة لكن الموت عاجله واختطفه من أحلامه».
أما الفنان "سموقان" فيرى أن الراحل في أعماله كان فناناً تعبيرياً، حاول أن يوفق بين الدلالة والشكل، مع ميل لتغليب الدلالة لأن أعماله - حسب قوله:"صافية كوجهه، وهي امتداد لبارعي النحت السوري الكبار".