تحقيقات – مجلة الشرطة والأمن العام- المرأة في البرلمان
إعداد الدكتور مهيار الملوحي
صدرت مجلة (الشرطة والأمن العام) في دمشق في آذار عام 1953، عن المديرية العامة للشرطة والأمن، وكان قد صدر قبل ذلك في دمشق ومنذ عام 1921 مجلة (الشرطة) عن مديرية الشرطة العامة.
جاءت مجلة (الشرطة والأمن العام) بالحجم الكبير وضمن (52) صفحة، وذات ورق أبيض ومصقول وحسنة الطباعة والإخراج وقد اهتمت هذه المجلة بالرسم الصحفي بالكاريكاتير، وقد صرحت في عدة أعداد عن رسام مجلتها دون معرفة كاملة عنه وعن جنسيته وكان الرسام يوقع بالأحرف اللاتينية (bu) (بو) وأغلب الظن أنه من جنسية أجنبية كان يقيم في دمشق، وقد ملأ صفحات المجلة بالرسوم لمعظم الشخصيات العامة والرسمية.
ونجد في العدد الحادي عشر، السنة الأولى الصادر في 15 تشرين الثاني 1953 تحقيقا صحفيا تحت عنوان (المرأة في البرلمان) وقد حاور مندوب المجلة ثلاثة مرشحات لدورة المجلس النيابي في سورية في ذلك الوقت وهن السيدة عدوية الطباخ وثريا الحافظ والآنسة شهرزاد صوفان، وقد قام رسام المجلة برسم المرشحات كما تخيل رسما كاريكاتوريا للبرلمان إذا حلت به النساء زمما جاء في التحقيق ما يلي:
(هل تدخل المرأة السورية المجلس النيابي؟ هذا هو السؤال الذي وجهته لنفسي وأنا ذاهب إلى منازل المرشحات اللواتي قدمن ترشيحهن للنيابة لأول مرة في الحياة السياسية العربية.
ذلك لأن المرأة السورية وإن منحت هذا الحق بموجب الدستور السوري فإنها ما زالت تواجه العداء من أكثر الأوساط الشعبية حتى من أوساط المرأة نفسها وفيها كثيرات لا يؤمن بهذا الحق بل لا يجدن ضرورة لاستعمال هذا الحق لأنهن يعتقدن أن للمرأة دورا آخر غير الدور السياسي الذي يختص به الرجال من دون النساء وأكثر الأوساط (الرجالية) تؤمن وتعتقد بأن المرأة إنما خلقت للبيت والطبخ وتربية الأولاد وكفى بها مهمة صعبة شاقة تستوجب استخدام كل أوقات المرأة في هذه المهمات الطبيعية التي خصتها بها الطبيعة؟
ولكن المرأة السورية المتعلمة لا تأخذ بهذا الرأي وترى فيه افتئاتا على حق المرأة خصوصا في عصر الذرة الذي أوجب إيجاد حالة من التساوي بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات وتعتقد المرأة المتعلمة إن الحياة السياسية في حد ذاتها ليست معقلا خاصة لا يدخله إلا الرجال وما دامت الحروب فتحت أبوابها للنساء ليساهمن فيها إلى جانب الرجل فمن حق المرأة أن تجد سبيلها إلى المجلس النيابي لتدافع عن حقوق المرأة باعتبارها طرفا آخر يقف أمام الرجل في ميادين الحياة، ولم تترك المرأة ميدانا إلا عملت فيه تجاه الرجل ونزلته في مختلف العلوم والفنون فصارت تقف أمامه مهندسة وطبيبة ومحامية وعالمة حتى كان لبعض النسوة تفوق ملحوظ في الاختراع والاكتشاف ، ولماذا تفتح تلك الأبواب أمام المرأة ويغلق في وجهها باب النيابة ويظل باب المطبخ وحده مفتوحا أمامها؟
غير أن هذه الحجج على وجاهتها لا تجد سبيلا إلى مفهوم الرجال الذين يستبدون برأيهم ويصرون على تخصص البيت كوظيفة أساسية للمرأة ويشارك الرجال في هذا الرأي كل امرأة لم تنل شيئا من العلم والمعرفة.
لقد زرنا السيدة الفضلى عدويه الطباخ في منزلها وكان يعج بالمؤيدين من الجنسين فكان فيه شبان متحمسون لفكرة وصول المرأة إلى المجلس النيابي لأنهم يعتقدون بأن سمعة سورية في العالم الخارجي تزداد وتتسع عندما يقال أن في سورية نائبات يتولين الدفاع عن المصالح العامة مع الرجل جنبا إلى جنب.
ولأول مرة وجدتني أمام سيدة عربية حسنة الثقافة جيدة الفهم للأمور تتكلم بعد روية وتفكير وتجيب على الأسئلة كما لو تردد أشياء محفوظة وقد أجابت على أسئلتي الساذجة فقالت:
إنني لم أقدم على ترشيح نفسي طلبا للشهرة كما يتبادر لبعض الأذهان لأنني والحمد لله أتمتع بشهرة حصلت عليها من المؤتمرات النسائية العالمية التي اشتركت فيها باسم المرأة السورية ومن الأعمال النسائية التي قامت بها الجمعية النسائية التي انتميت إليها، وإنني لم أرشح نفسي إلا بدافع الاستجابة للحق الذي منحه الدستور السوري للمرأة حتى لا يقال أن ما جاء به الدستور السوري ضرب من العبث، وكم كانت تلام المرأة السورية وقد حصلت على ذلك الحق دون الكثيرات من أخواتها من العالم الراقي، فيما لو دخلت الساحة الانتخابية من المرشحات للنيابة! ولهذا كان ترشيحي للنيابة من قبيل الواجب، لإيصال المرأة السورية إلى الندوة النيابية والتشبث بالمحاولات المعقولة حتى يكون للمرأة مكان بين نواب البلاد، أما تأييد المحافل النسائية ذات الشعور بضرورة الحصول على هذا الحق فقد نلت تأييدهم ولم يكن اعتمادي على هذه المحافل فقط بل إنني اعتمدت على الطبقة المثقفة في البلاد التي ترى بوجود المرأة في البرلمان ضامنا لحقوق الأفراد والجماعات، هذا ما قالته السيدة عدويه الطباخ بلهجة متزنة وأسلوب رصين ووجدتني آمنت بكلامها وأيقنت أنها لم تخطئ في هذا الاتجاه، وكم تمنت لو أنها ذكرت هذه الآراء في أحد بياناتها الانتخابية لتضمن أنفسها تأييد طبقة كبير
من القائلين بعدم وجود مكان للمرأة في المجلس النيابي...
تركت السيدة عدويه الطباخ وأنا أقدر فيها النضوج وسلامة الشعور بأحوال المجتمع وتابعت طريقي لزيارة السيدة ثريا الحافظ المرشحة للانتخابات عن دمشق، كان منزلها يعج بالأنصار والمؤيدين من الجنسين فهناك سيدات يستقبلن الزائرين وشبان يخدمون الضيوف، ولا غرو فإن الموقف يتطلب هذا التضامن بين الطرفين لأن هناك معركة انتخابية تتساوى فيها الأصوات ولكل صوت قيمته في هذه المعركة، وكانت السيدة ثريا الحافظ أعدت للمظاهر عدتها فارتدت عباءة حريرية ولفت رأسها بغطاء أبيض يستر شعرها فظهرت كتلك العربية المقاتلة التي نزلت ساحة الحرب لتقاتل الأعداء، واستقبلتنا
بابتسامتها المعهودة وحيتنا بلطف كما تحيي الناخبين، وإذ بها تأخذ الموقف على آخر درجات الجد، إنها تتحدث بطلاقة وتذكر للحاضرين نتفا من ماضيها وجهادها في سبيل تحرير المرأة السورية وفي سبيل إعداد أجيال من البنات المتعلمات.
لقد ظهر لي من هذه الزيارة ومن الاستعداد الذي شاهدته لدى المرشحتين أنهما أعدتا للانتخاب عدته، وقد تسلحتا بكل سلاح تتطلبه المعركة وكأنهما قدرتا شدة المعركة وقوة الخصوم فسهرتا الليالي ونظمتا الأعمال بشكل لا يترك مجالا للشك في النجاح، ولكن المسألة كما يظهر ليست مسألة استعداد وتسلح لأن الموقف كان يتطلب استجابة من الناخبين ليتقبلوا فكرة وجود المرأة في المجلس لأنهم يعتقدون ويظلون يعتقدون أن المرأة لا مجال لها في الحياة العامة وليس أمامها إلا المطبخ ومغسلة الثياب....
لم تقتصر مهمتنا على التحدث إلى المرشحات في دمشق ففي يبرود من أعمال قضاء النبك مرشحة أخرى وقررنا السفر إلى بيروت عروس جبال القلمون كما يقال، وغادرنا دمشق بعد الظهر إلى النبك ومن هناك ذهبنا إلى يبرود للتحدث إلى مرشحة من طراز خاص، ذلك لأنها تقدم ترشيحها للنيابة في منطقة محافظة وفي وسط يبدو من ظاهره أنه لا يسمح للمرأة أن تخرج عن الدائرة التي حددتها التقاليد والأعراف والعادة وفي المسألة سر يجب أن تكشفه إذ ليس من المعقول أن تتقدم للنيابة امرأة قلمونية ولا تتقدم امرأة حمصيه أو حموية أو حلبية مثلا.... وصلنا يبرود بعد أن سرنا على طريق كأنه خارج نطاق صلاحيات الأشغال العامة فأكثره لاحب (أي ترابي) تثور فيه عواصف الغبار كلما سارت فوقه السيارة، ولما دخلنا يبرود استقبلتنا غيوم من الغبار لأن الطرق فيها لم تعبد ولم تبلط مع أنها كما يقال مصيف من مصايف سورية الوسطى.. وتابعنا سيرنا تحف بنا سحائب الغيوم إلى منزل الآنسة شهرزاد صوفان المرشحة للانتخابات فاستقبلتنا بحضور والدها، وحدثتنا عن نفسها وعن برنامجها الانتخابي وعن الأسباب التي دعنها لترشيح نفسها للنيابة فقالت أنها لم تقدم على ذلك إلا لتبرهن على استعداد المرأة القلمونية للحياة السياسية وإنها من جهة ثانية أرادت أن يكون ترشيحها حلا للنزاع الذي ذر قرنه بين المرشحين من الرجال، وإذا فشلت في الانتخابات فإنها ستحاول مرة أخرى لأن المرأة القلمونية ما اعتادت أن تتراجع عن مطلب، والآنسة شهرزاد صوفان فتاة ذكية متعلمة تتحدث بلهجة حازمة ويبدو أنها ذات إرادة وعزيمة وقد مارست مهنة التعليم مدة من الزمن، على أنني أسفت أشد الأسف لعدم نجاح الآنسة صوفان لأنني تأثرت جدا من وضع مدينة يبرود وحالتها العمرانية وقد قدرت لو أنها نجحت لاستطاعت أن تقوم بما عجز عنه الرجال، إنها تستطيع أن تسعى لتعبيد طرق يبرود على الأقل وجعل هذه المدينة الجميلة مقصدا للمصطافين.. ولكن من سوء حظ يبرود أن الآنسة صوفان أخفقت.)