تواصل الزمن في قضية الوطن والأدب
طلعت الحسين - السويداء
لم تكتف الشاعرة "ربيعة غانم" بكتابة وقرض الشعر، بل توجهت إلى البحث والمقارنة والمقاربة في عدة أبحاث عبر استعراض قامات شعرية قديمة وحديثة، وتناول العوامل المشتركة بينها لتوضيح الدلالة التاريخية بين الماضي والحاضر.
المفكرة الثقافية التقت الشاعرة "غانم" في 20 تشرين أول 2014، فتحدثت عن بحثها الذي تناولت فيه "الوطن والأدب بين الشاعرين الأميرين "أبي فراس الحمداني" و"شبلي الأطرش" فقالت: «ربّما كان َ الفرقُ ما بينَ الشعرِ الشعبيّ والشعر الفصيح ِ شاسعاً من حيثُ الوزنُ والقافيةُ واللفظُ اللُغويَ، لكنّ اللافتَ للنظرِ بين شعرِ "أبي فراسٍ الحمْداني" و"شبلي الأطرش"، هو الدلالةُ الشعوريّة ُ ووحدةُ الموضوع، فقد تعددت العوامل المشتركة بينهما حيث كان الوطن محوراً أساسيّاً في تصديهما لهجمة الأغراب على الأرض، ومقاومتهما لهم بروح الشاعر، وعزم ِ الفارس وصلابته.
وقد كتب المرحوم الأستاذ "صيّاح الجهيم" في مقدمة ِديوان "قصائد للوطن والثورة" للمرحوم الشاعر "هلال عز الدين" في هذا المجال، إن ّ ديوان الشاعر "شبلي الأطرش" هو سجل لأحداث الجبلِ الكبرى آنذاك، ومرجع ٌ من المراجعِ لمعرفةِ الحركاتِ التاريخيّة التي شاهدها الشاعر وشارك فيها من موقعه الزعامي في الجبل، ولشعرِ هذا الشاعرِ ما يشبه من بعض النواحي بشعر "أبي فراسٍ الحمْدانيّ" ، فأبو فراس أسره الروم وسجنوه في بلادٍ بعيدةٍ، ونفى الأتراك "شبلي الأطرش" إلى برّ الأناضولِ، وكلاهما شكا الغربة والنفي، وحنّ إلى الأهل، وحثّ قومه على السعي لتخليصه، ويمكن أن نجملَ المشتركَ بين الشاعرين الفارسين عراقة الأصل والمكانة الاجتماعيّة، ومحاربة الاستعمار دفاعاً عن الوطن، والوقوع في الأسر المتكّرر لكلّ منهما، وحثّ ذوي القُربى للافتداء».
وأضافت:« اشترك الشاعران في عراقة الأصل، فكلاهما يرجع إلى نسب نبيل في العرب وكلاهما له لقب نبيل، "فأبو فراس الحمداني" اسمه "الحارث" وكنيته "أبو فراس" ويعود بنسبه إلى "بني تغلب" القبيلة العربيّة المشهورة، وهو من أسرة من الأمراء الفرسان الطموحين. ولد 932 م وتوفي 967 م يوم كانت الدولة العربيّة العباسيّة في طريق الانحلال، وعاش في بلاط ابن عمّه "سيف الدولة الملك الحمداني" في مدينة حلب حيث خصه بعطفه لما رأى فيه من سمات النجابة وبوادر الشجاعة، فنشأ فارساً مقداما وشاعراً مجيداً يهوى الحرب والمغامرة في سبيل المجد، كما يهوى الشعر ويبدع فيه ويخلص لابن عمّه فيحمي له مملكته ويؤدب القبائل التي تثورعلى سلطانه ويقول في ذلك من الشعر:
وكنّا كالسهامِ إذا أصابت مراميها ، فراميها أصابا
صنائع فاق صانعها ففاقت وغرس طاب غارسه فطابا
أمّا الشاعر "شبلي إسماعيل الأطرش" الملقب بشيخ مشايخ الجبل، فقد ولد في قرية "عرى" عام 1850م وتوفي عام 1904م. يعود بنسبه إلى والده "إسماعيل الثاني" بن محمد بن اسماعيل الأوّل بن علم الدين بن نعمة الله بن عبد الغّفار الذي يقال أنّه يعود بنسبه إلى "آل تنوخ"، ومنهم من يقول أنّه يعود بنسبه إلى "علي العكس" حاكم الجبل الأعلى، ومنهم من يقول بأنّه يعود بنسبه إلى قبيلة "شويزان" العربيّة، واختلف الباحثون حول نسبه ومنهم من يدحض كلّ ما قيل سابقاً فالمهم بالأمر أنّه عائد حسب كلّ ما ذكر إلى نسب نبيل، وهنا نلاحظ أن كلا الشاعرين يعود بأصله إلى نسب عريق كريم فاجتمعا على الفروسيّة والشعر وعانيا الأسر لسنوات عديدة.
وأما في محاربة الاستعمار والدفاع عن الوطن، فقد كان "أبو فراس" فارساً مغواراً لا تلين له قناة ولا يعرف للهزيمة طريقاً، وقد أبلى بلاءً بطوليّاً في محاربة البيزنطيين، كما كان شاعراً وناقداً موهوباً في ندوات الأدبِ وقد تعرّض لكبير شعراءِ عصره ونابغةِ الشعر العربي المتنبي مراراً حتّى إنّ المتنبي صار يتحاشى جانبه ويتجنب الاجتماع َ بهِ وكانت بطولاته في مواجهة البيزنطيين دافعا لديهم بالنيل منه فتمكنوا من ذلك ووقع أسيراً، وكانت قصائده التي سميّت "الروميّات"قد تضمّنت في أبياتها الإحساس الصادق والتصوير الدقيق، والحزن والألم لما عاناه في حياته وأسره واستعطاف ابن عمّه لافتدائه وذلك مما ساعد على تخليد شعره إلى الأبد.
و قد جاء في تاريخ الأدب العربي "لحنا الفاخوري" أن الروميّات هي القصائد التي نظمها أبو فراس في أسره ببلاد الروم وأرسلها إلى ابن عمّه سيف الدولة أو إلى والدته الكئيبة على فراقه أو إلى أصدقائه والتي كانت كيوميّات سجّل فيها الشاعر الأسير ما يجري له من حوادث مزعجة، ومناظراتٍ كلاميّة مع بعض الروم ، وما يعيش فيه من أحوال الأسر القاسية، وكان لألم الأسر اليد الطولى في تكوين نفسيّة شاعر الروميّات وأثر بعيد في ذلك الشعر، و بالألم ترقّ العواطف ويرهف الإحساس فيجعله متيقظاً لأخف المشاعر فيقول:
ومن شرفي ألاّ يزال ُ يَعيبُني حسودٌ على الأمر ِ الذي هو عائبُ
فهم يطفئون َ المجدَ والله واقدٌ وهم ينقصون الفضل ، والله واهبُ
أما بالنسبة للشاعر "شبلي الأطرش" فقد ناهض العثمانيين طيلة حياته التي جرّته إلى السجن والنفي حتى وافته منيته، فما كان يشتم هواء الحريّة حتى يعاد إلى السجن مرّة أخرى، كما أكثر الأتراك من التنويع في منفاه حيث تم نفيه إلى أكثر من مكان في تركيا كما ورد في شعره الموجود في ديوانه ، إلى أن صار اليأس بديلاً عن الحريّة، والظلم شريكاً في طعم الحياة، فمن الفارس والمحارب الشجاع، إلى مجرد أسير حيث قال :
خان الدهر غرّار غدّار بالفتى مرحوم من سمى الدهر دولاب
يا مأمنين الدهر كونوا على حذر الأيام تجري والدهر قلاب
وهنا نرى أن كلا الشاعرين قد عانى البعد عن الأهل والوطن ومرابع الصبا وتحرّقا بهمّةٍ عاليةٍ إلى المشاركة في ساحات الوغى وحنّا إلى الصحبة و الخلّان ، وعرف كلّ منهما بخصوصيّة قيم الفرسان والشعراء .
أما فيما يخص الوقوع بالأسر المتكرر لكلّ من الشاعرين، فلم يقع أبو فراس مرّة واحدة في الأسر، ومثله شبلي الأطرش بل أُسِرَ "أبو فراس" لفترات طويلة، ومثله "شبلي الأطرش" وكلاهما وصف عذابات الأسر بأعذب الأشعار فقال أبو فراسٍ :
أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ أيا جارتا ، هل تشعرين َ بحالي
أ يضحكُ مأسورٌ وتبكي طليقةٌ ويسكتُ محزونٌ ويندبُ سالي
ويقول الشاعر شبلي الأطرش وقد حول المنفى إلى دفتر ذكريات.
كنّا بحوران العذيّة بلادنا بنعمة جزيلة والغبوق زلال
كنّا نجود ونقضب النّاس بالحشم وبالسيّف اللي يشتهون فعال
ببلاد سوريّا بلا شك فرسان من غيرهم إياك تحسب رجالي
كان الأسر للشاعرين نقمة عليهما ونعمة لتاريخ الأدب العربي ومكتباته، حيث ما زالت أشعارهما تحفز الوجدان ، وتستنفر الضمير ولو كان ذلك عبر الشعر فقط، فالشعر كان ومازال من أكبر حوافز التاريخ .
لقد فعل الوشاة فعلهم بين أبي فراس الحمداني وابن عمّه سيف الدولة كي يوسعوا الفرقة بينهما مستفيدين من ذلك، ما جعل سيف الدولة يتلكأ بافتداء ابن عمّه فكأنه يريد له زمنا ً أطول في الأسر وهذا ما أثار حفيظة أبي فراس حتى راح يهدد سيف الدولة بالانحياز إلى أعدائه وكذلك صار يذكره بماضيه و مناصرته في معاركه ضد الأعداء فقال:
أتنكرني ، كأنّك لست تدري بأنّي ذلك البطل ُ ، المحامي
ولمّا أن عقدت َ صليب رأيي تُحلّل عِقدَ رأيك في المقام ِ
وكنت ترى الأناة ، وتدّعيها فأعجلك الطعانُ عن الكلامِ
ونرى الشاعر "شبلي الأطرش" وقد أرسل قصائده الطويلة يحث أهله على افتداء المنفيين والأسرى من أهل الجبل"رجالاً ونساءً وأطفال" كأنّه يحثهم على المطالبة بالإفراج عنه وهنا قد اعتبر أنّ قضيته الشخصيّة هي قضيّة عامة وشكواه الفرديّة تحولت إلى شكوى عامة فأكثر من طلب النجدة من أهل الجبل ولكن لم ينبر أحد منهم بالسرعة اللازمة لمساعدته ونجدته فقال :
ما ظن منكم خالي البال عنّا من كلّ قرية بالأناضول عنّا
إللي مغرّب يوم تونس معنّا وإللي برودس نجمهم بعد غابي
بقي أن نقول أن كلا الشاعرين قد عاش في عصر بعيد في الزمان عن الآخر لكنّ المشترك فيما بينهما قد جسّر الزمان ليصبحا قضيّة واحدة في تراثنا العربي، القضيّة التي تشير دوماً إلى أنّ أبطالاً وشعراء كانوا الحداة أمام شعبهم وأوطانهم فملؤوا النفوس بالمجد والعزّة وآيات الفخار فلا التاريخ سينسى "أبا فراس الحمداني" ولا هذا الجبل سينسى الشاعر الفارس "شبلي الأطرش" وعلى تاريخيهما نبني قيم حاضرنا ومستقبلنا.
المصادر والمراجع:
"تاريخ الأدب العربي" للكاتب "حنّا الفاخوري"، وكتاب "تاريخ الأدب العربي" للكاتب "أحمد حسن الزّيات"، وكتاب "حوران الدامية" للكاتب "حنا أبي راشد"، و ديوان الشاعر "أبي فراس الحمداني"، و ديوان "الشاعر شبلي الأطرش"، و مذكرات "سلطان باشا الأطرش" القائد العام للثورة السوريّة الكبرىللكاتبان "يوسف دبيسي – صلاح مزهر".