جدعان قرضاب: البازلت جوهر نبيل لقهر الفناء والعدم
علاء الجمّال
"جدعان قرضاب" نحات سوري، خرج من كنف عائلة بسيطة الحال، ورداً منه على الظروف اتخذ لنفسه مسارات فكرية تنحى إلى الأدب والمحاماة والنحت.. وهنا بدأت رحلته في البحث والتأمل واكتشاف الإنسان، والتعمق في دراسة الميثولوجيات الدينية.. وفنون النحت والإبداع في الحضارات القديمة..
المفكرة الثقافية تعرفت إلى لمسات الإيحاء والجمال في أعمال النحات "قرضاب"، أثناء زيارته بتاريخ 1/9/2008 وكان معه هذا الحوار:
ــ يستشف من أعمالك التي عرضتها في غاليري "فري هاند" امتداد للحضارات التاريخية.. هذا الامتداد ماذا يشكل في عملك النحتي؟
تحمل أعمالي تأثراً عميقا ًمن التاريخ، وامتداداً للكثير من الحضارات القديمة التي باتت آثارها الخالدة مرجعية لي في خلق الحياة في تكويني النحتي، ومن تلك الحضارات "أوغاريت" التي زينت الشاطئ السوري بإبداعات الإنسان القديم، والحضارة "السومرية" في "العراق" التي أرست أهم مذاهب العقل وعلم الجمال، كذلك الفن "الأشوري" ما بين النهرين، الذي حفر بالصخر إبداع ذاك الفنان والحسن الفطري المكني في ذاته، إيضاً "مدائن صالح" و"مقابر بن حسن" في "الجزيرة العربية"، وديانات الطوطمة في الشعوب البدائية.. وخاصة في قارة "استراليا" و"أمريكا"، وبدائع الموروث التاريخي والفلسفي في الحضارتين "اليونانية والرومانية" وغيرها الكثير، وستبقى هذه المرجعية حتى تبلغ أعمالي مقاماتها العليا في الأثر الخالد.
ــ دعنا نتحدث عن خصوصية العمل ضمن محترفك النحتي وأدوات العمل اتي تستخدمها؟
الإزميل والمطرقة" أدوات العمل في محترفي، وخصوصيتي في الإبداع مسألة متعلقة بالذات الجمالية، المستمدة من لذة التجربة و المعرفة، وحسن التعامل مع الملامح الأولية للكتلة، وإحداث التوازن بين النور والظل في معالم أوجهها الأربعة،واحترام ميزاتها كخامة نحتية، واستمرار الاطلاع بما يغذي ذاكرتي ويزيد من أفق الثقافة البصرية لدي.
ــ ما البعد الروحي الذي تحمله الرمزية في منحوتاتك ؟
الرمزية في النحت تقوم على أساس لا يتجزأ جوهره الإنسان.. هذا الكائن الذي أحدث الاضطراب الخلاق في الإيقاع الجيولوجي للبشرية، وأبرز عنصر الجمال المتعلق بالحلم والتأمل، وكشفَ جزئيات الرؤية في الطبيعة المحسوسة، فاختزنها ثم أخراجها بأبعادها الكاملة عبر إبداع فطري، وهو النحت الذي تعاطى معه أولاً بحفر الأشكال البسيطة والرموز على جدران الكهوف والصخور الكتيمة.. وحوله لاحقاً مع مرور الزمن إلى أوابد أثرية خالدة.. شكلت البعد الروحي في العمل النحتي، وأعمالي هنا توقفك أمام جزء من ذاك البعد، الذي كان محرضي وملهمي على الفعل والإنجاز.
جماليات الرؤية تزيد في ثورة المشاعر
ــ "السويداء" أرض النحت والتاريخ.. رغم ذلك تجد النحاتين قليلون نسبياً وبعضهم متأخراً عن الظهور، ما تفسيرك لذلك؟
هناك ما يزيد على /40/ نحاتاً وجميعهم يعملون.. ولعل السبب في تأخر بعضهم عن الساحة الفنية: فقرهم للفلسفة الوجودية قبل امتهان النحت، وللتأمل والأفكار الخلاقة قبل الشروع في اختيار الكتل الصخرية أومادونها من الخامات والبدء بنحتها.. إلى جانب العامل المادي والمعنوي.
ــ ما رؤيتك للأوابد الأثرية المكتشفة حديثاً في السويداء؟
جميعها تحتاج إلى ترميم وعناية، ووضع خطط مدروسة لاستقدام الوفود السياحية إليها والتعريف بها، والعمل على إيجاد مرافق خدمية ملحقة بها حتى يتمكن زائرها من التعلم و الاستمتاع.
ــ عند رؤيتك لمنحوتة خالدة منحدرة من إحدى الحضارات، ما الإيحاء الحسي الذي تشعره؟
النحت هو المحاولة الإنسانية الأولى في صناعة أدوات الحياة والفكر والتخيل.. ولا شك أن المنحوتة الخالدة المنحدرة من حضارة ما، تعمق جماليات الرؤية.. وتزيد في ثورة المشاعر الإنسانية.. ولا سيما الحنين إلى الماضي، لذلك فن النحت أياً كانت طبيعته سيبقى سجلاً أميناً لكل الحضارات والأزمنة المتعاقبة وقضايا الكون.. وسيبقى الجوهر النبيل الذي سخره الإنسان لقهر الفناء والعدم.
ــ صف لنا منطقة أثرية في "جبل العرب" تحضر ذاكرتك الآن؟
"اللجاه" منطقة الأبجدية الأولى والأساطير، أرض المتعة والدهشة والاستغراب.. مداها الغامض يسمعك صوت قلوب تدق وملاحم تدور.. صخورها لوحات طبيعية معقدة التشكيل تحمل دلالات مختلفة عصية على الفهم والإدراك.. في "اللجاه" يحتاج المرء إلى دهور حتى يفهم السكون في معالم تضاريسها والتوآتها المتعرجة..
البازلت مكن العلم من قراءة التاريخ
ــ كيف ترى العلاقة المشتركة بين النحت والقانون، كونك محام قبل أن تكون نحاتاً؟
الفن عموماً مفاعلة مع المجتمع والقانون كذلك، كلاهما ينحيان إلى مفاهيم إنسانية مشتركة، غايتها التنوير والمعرفة والحرية.. والأسمى هو الفن لأنه مرآة العمل الجميل، ومعيار الرقي في الحضارة، والمدونة الأمينة لها وللصور الكائنة فيها، والرموز التي يبدعها العقل عبرها.
ــ ماذا عن تفاعل الذاكرة البصرية مع "البازلت" كمعطى تاريخي؟
"البازلت" كخامة للتشكيل يحرض الحديث عن المدون الحضاري الأدق، وباعتباره من أقسى المواد في الطبيعة، مكن العلم من قراءة التاريخ بقدمه وتعقيداته.. ونشاط البشر خلال عصوره المتوالية، وكشف بعض أسرارهم ومفرداتهم.. هذا التحليل تأثراً واضحاً يبرهن تفاعل الذاكرة البصرية مع "البازلت" الموغل في القدم..
ــ تتسم منحوتاتك بتناغم الميول اللينة والتحويرات المدروسةبدقة عالية، ضمن أحجامها الصغيرة، كيف أوجدت هذا التناغم؟
جميعها استمرارية لرؤية سابقة: أن "البازلت" يحفظ أحلامك وأسرارك ورؤيتك للكون والإنسان والطبيعة.. ويدون لمسات الشجن والحزن والتحدي.. الذي يخلق في الأرض وتشعر به أنت، وبالتالي يوصلنا بكتمانيته واللمسات التي حفرت عليه إلى ماقاله الأديب الفرنسي "روجيه كارودي": «الأفضل ذات يوم أن نضع أرواحنا في حقائب محكمة ونغادر هذا العالم». فكلما تعاملنا معه بصدق وحس عال ازددنا مرونة وليونة في التعامل معه، والتناغم تبدأ مفرداته من هذه الازدواجية. ومن زارمتحف "الأرميتاج" "بليننغراد" يرى في مقتنياته التي تقارب المليون ونصف المليون عمل فني تناغمات جمالية شديدة التأثير على النظر لفرط الاهتمام والبذخ في منحها أبهى حلة بصرية ممكنة.
ــ المرأة تحضر أعمالك باستمرار كعنصر إلهامي، ما توضيحك لهذا الجانب؟
المرأة ديمومة الحياة الإنسانية، محرضة للخيال وملهمة له، صرختها المتمردة في وجه الظلم تحمي الأرض من الفساد والكراهية والحروب.. اخترتها موضوعاً للعديد من أعمالي كونها لا تقبل التحوير والذوبان وفقدان الهوية التي تتسم بها، بل تبقى راسخة ثابتة، والطبيعي أن ندافع عنها.
قطعاً نحتية تفرض وجودها
حول أعمال النحات، قال الفنان التشكيلي السوري "جمال العباس": «لقد قرأ "جدعان قرضاب" رسالة الحجر البازلتي في الحضارات القديمة وخاصة "الرومانية"، واستفاد من كونه ابن المنطقة وتلميذ لمؤثراتها الحضارية، هذا جعله يستدرج الحجر ويستنهض مكونات المادة فيه ويطرح عليها رغم قسوتها مسوغاته الجمالية من خلال الفكرة والموضوع والملمس والتكوين فحملت إلينا مفارقات واعدة على أكثر من صعيد مثل الوجه والأقنعة، التي تذكر بجانب من النحت "الرافدي والطوطم والفتاة المجنحة.. هذه المجموعة باتت قطعاً نحتية تفرض وجودها وتحمل مؤثراتها وستكون رهانه الأمثل في مسيرته النحتية».
وأضاف "العباس": «إن أعمال " جدعان قرضاب" تبوح بفيض خاطر عفوي قوامه الإنسان، وفي بنيتها طغى الطابع الأدبي، وبعضها الآخر خرج من هذا الحصار وتفرد بالقيمة النحتية، إنه في مرحلته هذه فنان عفوي ذو تطلعات أكاديمية.. يجتهد بها تأثراً بالذي شاهده في زيارته لبعض المتاحف. أما مفرداته البصرية فهي شرارة موقوتة قابلة للتفجر بإبداع آخر».
ببلوغرافيا الفنان
ولد "جدعان قرضاب" في "السويداء" عام /1945/، بدأ العمل على خامتي البازلت والخشب منذ العام /1982/، درس في معهد "أدهم إسماعيل" للفن التشكيلي "بدمشق"، وهو خريج كلية الحقوق ـ جامعة "دمشق" عام /1977/، وعضو اتحاد الفنانين التشكيلين السوريين في "السويداء"، أقام الفنان خلال رحلته ه معارض شخصية والعدد من المشاركات في معارض مشتركة.. له مجموعة قصصية صادرة غي العام /2007/ بعنوان "ذاكرة قرية"، وله مجموعة ثانية ستصدر قريباً، كما لديه أكثر من 50 دراسة نقدية في الأدب السوري والعالمي