"جمال العباس":الانتماء يساعد في إدراك قيمة الموروث التاريخي

علاء الجمّال

"جمال العباس" فنان تشكيلي سوري، ولد في "السويداء" عام 1941. تخرج في كليّة الفنون الجميلة "بدمشق"عام 1969.عضو الاتحاد العام للفنانين الجزائريين، و عضو الاتحاد العام للفنانين بدولة "الإمارات العربية"، والاتحاد العام للفنانين التشكيليين في "دمشق". عمل كاتباً ومحاضراً في التشكيل منذ عام 1970، وهو رسام في فن "الموتيف الصحفي"، وله العديد من المعارض الشخصية في "سورية" والعالم.

يُعرف عن "العباس"، مقدرته التربوية والتدريسية في التعامل مع اللون والشكل الذي يختاره موضوعاً للوحته، كما أن مقدرته على التجريد والاختزال بحرية وجرأة، جعلاه يخرج عن المفاهيم والمعتقدات السائدة في محيطه،  ليمنحا التكوين لديه حرارة الإيحاء الحسي، الجاذب للعين المتأملة والباحثة.     

 eCalزارت "العباس" وكان معه هذا الحوار:

ــ ما هو منظورك "للفن التجريدي" المعاصر؟ و متى يتحول "التجريد" إلى فن عبثي لا قيمة له أو معنىً؟ ومن يكتشف هذا الضعف ويعمل على معالجته؟

"الفن التجريدي" باعتقادي أرقى و أبلغ التعبيرات التي تحاكي الوجدان بلغة الصمت الإيحائي، هو في حقيقته اختزال للمشاهدات البصرية، والأصوات المسموعة بأبسط التغييرات التشكيلية المحدثة باللون، هو موسيقى تتضمن كل معالم الرؤية التي تجعلك مدركاً لها ومتفهماً لقدرك وثقافتك. 

يخطئ من يظن أن "التجريد"عبث يروق للبعض استخدامه لإخفاء جوانب لا يتمتعون بها، وإنما هو نتيجة تراكم وتجريب، ويكون عبثاً بالفعل إذا كان فنان "التجريد" لا يجيد "الرسم الواقعي والتشريح"، ولا يعرف سيكولوجيا الألوان وحركة التكوين وإيقاع عملية الاختزال واستقرار الشكل، من يكتشف ذلك؟ بالتأكيد الناقد المثقف و المتخصص، صاحب قدرات معاينة الشكل واختراقه إلى العمق، وعندما يستخدم  الفنان معالم تشكيلية مقروءة، أصولها واقع مشاهد ولا يغلب عليها الاختزال، تخرج منها طاقات إيحائية كبيرة تأتي في صالح المتلقي الذي يقف أمام اللوحة بتركيز متأملاً وباحثاً.

 

ــ متى تتميز تجربة الفنان برأيك؟ وتصبح ذات معنى وقيمة فنية؟

الذي يميّز تجربة الفنان عن سواها من التجارب، طاقة الإبداع الممتلكة والمتولدة من خصوصية العمل، ومع الاستمرار تستقر هذه الطاقة في بحر من العوالم التصورية المتجددة والمتعددة الأوجه، وعندما يستجيب المبدع لنداءات عوالمه، تراه يغادر كل شيء حوله  ليطلقها أخيراً على لوحته البيضاء، مستخدماً اللون والشكل والخط والتكوين، لكن التجربة تخلو من المعنى والقيمة الفينة إذا لم تشفع التصورات المجسدة بأحاسيس مرهفة ومشاهدات تراكمية مدركة ومحسوسة من الواقع، فالثقافة المتنوعة تمنح الناتج الفني مدلولاته ومعانيه، وتساعد في تثمينه وجعله مؤثراً أكثر.

مقومات النقد والكتابة التشكيلية

ــ هل تعتبر الكتابة التشكيلية نقداً جمالياً؟ وما العلاقة التي تجمع بينهما؟

الكتابة التشكيلية شيء والنقد الجمالي شيء آخر، ولكن يجمعهما خيط رفيع  أهمه تقديم المحتوى الثمين في اللوحة للمتلقي، أما الفرق الجوهري بينهما، أن النقد يحتاج إلى إجادة لغتين أو أكثر والتربع على أرشيف غني من الثقافة الفنيّة والعامة، والتمتع بقدرة اختراق الشكل في اللوحة وتحليله وفق المذهب الذي ينتمي إليه، يضاف إلى ذلك قدرة المقاربة بين النتاج المحلي والعربي والعالمي، والرصد الدائم لكل معالم الحركة التشكيلية وحداثتها، والتفرغ الكلي للعمل، أما الكتابة التشكيلية رغم الاختلاف تعتبر مقاربة إلى حد ما من النقد الجمالي.   

ــ عدم الجدوى من النقد الفني في مذهب "التجريد"، ما أسبابه برأيك؟

وقف "التجريد" بعد نهوضه عند حدود معينة مبتعداً عن التقييم والتقويم، وربما الحالة الراهنة والانفتاح على العالم سبب في ذلك  فبات جواز سفر لكل الفنانين  بدعوى حريّة التعبير،  وأدى ذلك  إلى حداثة أخذت بطريقها الفنان الحقيقي، الرسام والمشرح المتفوق والفنان الذي تعوزه هذه الصفات، ويخفي عيوبه بهذه الظاهرة، مما جعل عملية النقد أمر لا طائل منه بما يشبه الحالة الاقتصادية السائدة، والمتمثلة بربح بعض الشركات الوافدة والمتعددة الجنسيات من خلال "السفر والتوظيف الوهمي".

 

ــ ما مدى حاجتنا إلى الثقافة البصرية في حاضرنا الآن؟

نحن بحاجة إلى ثقافة بصرية تدخل كقيمة جمالية من أساسيات الجمال في الحياة وإغراءات الترف الفكري والتواصل الحياتي فيها, من هنا أرى أنه يتوجب على الرسالة الفنية أن تنقل مفاهيم الثقافة البصرية إلى كافة شرائح المجتمع، عن طريق المحاورة والمعالجة العلمية بالفعل الذي يفتح مسارب الوصول إلى إدراك قيمة الجمال ومؤثراته على المجتمع والنمو الحضاري، فمثلاً "جمعية حماية البيئة" لو أدركت رسالتها الجمالية لرأيت الحدائق والمنتزهات هنا مماثلة لحدائق ومنتزهات لندن وباريس.   

أهمية الموروث التاريخي

ــ ما تصورك للدور الذي يجسده الموروث التاريخي في بيئتنا المحلية من تأكيد قيم الجمال والهوية العربية؟ وإنماء الحس التذوقي لدى المتلقي؟  

إذا وصلت الرؤية التشكيلية في اللوحة إلى جميع  الناس، فذلك يعدّ من أهم العوامل التنهيضية في رقي وتقدم الشعوب، ولولا فن التصوير الزيتي والنحت والخزف لما عرفنا شيئاً عن حضارة "المصريين القدماء" برسومهم ومنحوتاتهم..كذلك الحضارات الأخرى، وعدا عن أن الصورة الفنية والمنحوتة و النقوش المحفورة مستمسكات جمالية ودلالية إلى عصرها، إلا أنها متسمة بالخلود الأزلي، الذي يجعلها منبراً معرفياً شديد الأهمية، تقف عنده  الأجيال المتعاقبة وتتعرف منه إلى طرق التفكير والإبداع والتقييم والإنجاز في الموروث التاريخي، إذاً المفردات التشكيلية  المتداولة  في "تراثنا الشرقي" مستندة إلى الفنون الجميلة، التي خلفتها الحضارات المتوافدة على بيئتنا المحلية، لكن رغم مرور60 عاماً على مزاولة الفن التشكيلي السوري، والنظر بعمق إلى تلك المستمسكات والتعرف إلى دلالتها وخصوصيتها، لم يخرج المتلقي من المراحل الأولى في تذوق العمل الفني وفهم مقامه التعبيري، وهذا يوضح لنا سبباً بيناً من أسباب الأمية البصرية التي يعاني منها الحاضر اليوم، فالثقافة والانتماء يساعدان على إدراك قيمة الموروث التاريخي، والأهميّة الكبرى من معرفتنا به، التي تنقلنا إلى مراحل متقدمة في فهم رسالة الفن التشكيلي، واستيعاب مزاياه الحديثة، بالتالي تذوق كل ما تقع عليه العين من مشاهد مُصادفة، تحمل صبغة الجمال والهوية العربية.

ذكريات لا تموت

ــ أنت متأثر بالفنان الراحل "فاتح المدرس"، ما وصفك لهذا التأثر؟

نشر لي في صحيفة "الأسبوع الأدبي" إحياء لذكرى الراحل "فاتح المدرس" موضوعاً بعنوان "الثقافة والأدب والأرض وذكريات لا تموت"، ونشر لي مقال آخر أوضحت فيه أحاديث دارت بيني وبينه في سبعينات القرن الماضي، تضمنت بشكل عام "حياته وفنّه ومؤثراته ورؤيته في فنونا التشكيلية والمحلية والعربية والعالمية".

عرف "الراحل" بأطروحاته الأدبية ومواقفه الوطنية، التي عبّر عنها بمذهبه القائم على علاقة تعاضديه بين واقعه الذاتي وعشقه وانطباعاته حول هذا الواقع، الذي جسّده  بتعبيريه فطرية مختزلة من حيث الشكل وللون، وصولاً إلى تكوين لوحة جداريه تنبض بحس المواطنة و الانتماء، عدا عن كونه فناناً تشكيلياًَ مصوراً كان أديباً بارعاً وحادّاً في ألقاء حديثه وردوده.  

 

ــ تشغل هاجسك البحثي قضايا مختلفة، ما هي القضية التي توليها اهتمامك الأول؟

تشغلني قضايا متعددة، أهمها التعامل مع لوحتي الجديدة، والبحث عن سبل مثلى ترضيني وتحقق لي توازنات بدأت أفتقدها منذ فترة، وبالتحديد هي التعبير عن عالم الألوان والوصول إلى قراءات بصرية أكثر دقة في تصوير المحيط الذي أنتمي إليه، و منذ زمن طرحت مشروعاً تشكيلياً ألزمت نفسي به،  والآن سأعمل على تحقيقه ويتعلق بدراسة سأجريها حول  صخور البازلت في منطقة "اللجاه"، التي تتجه جنوباً بطول 60 كيلو متراً وعرض 71 كيلو متراً, وتقع في بدايتها مدينة "فيليب العربي شهبا"، مستنهضاً في دراستي لها خبايا النفس البشرية، التي سكنتها أو جاورتها واستمدت منها فلسفة البقاء والوجود. 

قوة الحس والإدراك

تمتعت أعمال "العباس" بالكثير من الاهتمام والتقدير من الوسط التشكيلي السوري، لما فيها من خليط لوني تحكمه قوة الحس والإدراك والمبادرة..هذه التجربة قال عنها الفنان التشكيلي السوري الراحل "فاتح مدرس" في 29/8/1994:«إذا أردت أن تفهم أعمال "العباس" وعمقها اللوني الأزلي يجب أن تعيش في "الجنوب السوري" وتتعرف إليه، ففي لحظٍ تبدو موضوعاته التجريدية معركة لونية رائعة، نسجت  مع شكل الحياة في تلك المرتفعات الفريدة المعالم».

وأضاف: أدخل "العباس" الشكل المنظور من الواقع في بناء عمله التجريدي،  ومنحه الحرارة الكامنة في نفس إنسان "الجنوب السوري"، ليظهر عبره صدق مشاعره مع "اللون والشكل والبيئة"، عناصر جسّدها بحريّة تامة..هذه الحرية هي أساس الوعي التشكيلي، الهادف نحو غنائية جغرافية متميزة.

قال عنه الفنان التشكيلي السوري الراحل"غازي الخالدي":«أحب في "جمال" إصراره وجرأته في تجاوز كل المفاهيم التقليدية السائدة، التي تحيط به وتحاصره في كل زاوية يذهب إليها.. هذه الجرأة أوصلته إلى حالة لونية امتزج فيها الجانب "الحسّي والفكري والعاطفي" بتقنية لا تخلوا من المغامرة والمبادرة».   

أما الفنان التشكيلي السوري"إلياس زيات" فقال:«"جمال العباس" مصور بارع، عرك اللون حتى أصبح تحت ريشته طبيعة ثانية، تحاور الشكل المرسوم ثم تتجه معه نحو المشاهد فتخبره عن حدث حصل فجأة، كلقاء غير منتظر أو صراخ طفل وليد أو دوي انفجار، رغم إشارات الشكل الدلاليّة، الموزعة في لوحاته هنا وهناك».

وأضاف: إن "العباس" يميل في أسلوبه إلى تجريد اللاشكل، الذي يوحي بهدوء الريف الدافئ،  بحلم طفل ينام جانب شجرة، أو بأشباح خرافية تتلاحق، جميعها إيحاءات مُحمّلة بإرادة ثابتة تحرس مواضيعه التي ألزم نفسه بها، مما ولد لديه إصراراً قويّاً على تصوير التعبير الذي يُحسّه في داخله حيال الموضوع الذي يختاره و يعالجه، كان شكلاً من الواقع أو لا شكل.