"خناف صالح": التجريد اختصار للزمان والمكان وتبسيط للشكل واللون
علاء الجمال:
«التجريد المذهب الأنسب لموضوعي (الظلمة والنور)، وبعد أن أجريت تجاربي رأيت أنه يخدم فكرتي ويعبر عني وعن أحاسيسي وذاتي، ورأيت فيه حرية التكوين أكثر من بقية المذاهب، وهذا لا يعني أنه وحده المسيطر على أعمالي فهنالك حالة تعبيرية أيضاً».
هكذا بدأت الفنانة التشكيلية السورية "خناف صالح" حديثها إلى موقع المفكرة الثقافية حول رؤيتها للتجريد ومسارها التشكيلي به، وذلك خلال الحوار التالي الذي أجري معها في غاليري "فري هاند" للفنون الجميلة ـ "دمشق".
* هل لك أن تعطينا نبذة مفصلة حول المراحل التي مرت بها تجربتك الفنية ؟
** بداية كنت أبحث عن موضوع فني يكون جديراً بالإهتمام والتميز، ويكون معبراً عني وقريباً مني، فبدأت رحلة البحث عن الذات فوجدت أنها ليست سهلة فلا يوجد شيء صعب ولا يوجد شيء سهل، لكن ثمة ما لفت نظري وشد انتباهي وأحسست فعلاً أنه قريب مني وهو المساء، وخاصة الأضواء والظلام الدامس بهدوئه وسكونه.
فكنت كلما يأتي الليل أنتظر المساء بفارغ الصبر كي أشبع بصري بتلك الأنوار التي جذبتني وسحرتني وسط سوداه الغامض المجهول، وكذلك القمر والنجوم, فوجدت ضالتي التي أبحث، من هنا قررت البحث عن أدوات وتقنيات يمكن أن تخدم هذا الموضوع وكذلك الأسلوب الفني الملائم له.
كان لدي هاجس وهو كيف سأرسم الضوء مثلما أراه فعلاً؟ وقد كان هذا الموضوع ملفتاً لي منذ زمن ولكن لم يكن قابلاً للتفكير، وقبل مشروع التخرج بعام واحد تشكل لدي عالم خيالي خاص أحلق إليه أينما أكون، ففي البداية حاولت أن أرسم الطبيعة الصامتة مع هذا الأسلوب الجديد الذي هو عبارة عن تحوير الشكل باستخدام ألوان صريحة من البني الغامق واللون الأزرق خاصة، وإحاطة الشكل بخطوط سوداء عريضة وقوية…
هذا كان في بداية السنة الرابعة أي قبل مشروع التخرج، حيث كنت أرسم الطبيعة الصامتة والأشخاص، بتحوير الأشكال وتبسيطها. أما الخلفية فأحلق عبرها إلى عالم خيالي يدفعني أحياناً إلى اللجوء لبعض الرمزية في بعض الأشكال… كثيراً ما كنت أرغب أن أتحرر من الروتين الأكاديمي ومن الاكتفاء بالرسم على نسيج اللوحة، فرأيت أن القماش لوحده لن يعطيني شيئاً، فلجأت إلى استخدام الكولاج بلصق قصاصات ورق المجلات والجرائد وحتى نشارة الخشب على سطح اللوحة حتى أشبع إحساسي، وهنا كانت بداية أسلوبي الفني، فلم أجد في رسم جرة وطاولة ما يغني فكرتي بل أحسست أنني مقيدة إلى أن اخترت المساء كموضوع، فوصلت إلى أول الطريق.
رسمت البيوت الريفية وأجوائها في الليل بنوافذها المنارة حتى رسمت الجبال والسماء الزرقاء، وكذلك وقت المغيب فتارة يأخذني المغيب إلى البعيد، إلى بيوت بعيدة تتلألأ أضواءها الليلية كالنجوم هناك في "القامشلي" وقراها ، وتارة أخرى تأخذني السماء إلى عوالم وكواكب مجهولة فأسرح في الخيال والأحلام… رغم أنني أعيش في الواقع لكنني رأيت أن الطبيعة ملاذي، فرسمت الهلال والنجمة ورسمت الماء والصخرة.
* إلى أي مدى كان تأثير الطفولة على فنك؟
** في طفولتي تأثرت كثيراً بالسهول والجبال البنفسجية، وأحببت الرسم كثيراً وكنت ألجأ إليه كلما تضايقت وأحسست أنه الحلم الذي يجب أن يتحول إلى حقيقة مستقبلية، كذلك تأثرت بفسحة الكون في الليل وحتى الآن مازلت أنظر إلى أبعد نقطة في الكون، ودائماً إلى البعيد البعيد من خط الأفق ولم أكن أدري لماذا؟
ربما دل ّ ذلك على أنني كنت أطمح إلى المستقبل البعيد القريب أو حتى إلى عمق النفس البشرية
أيضاً تأثرت بألوان بيئتي التي عشت فيها الألوان الترابية، وخاصة التراب والمطر فالتراب هو أصل الإنسان، حيث أشعر بارتياح كبير عند رؤيته، وخاصة بعد هطول المطر عليه برائحته المنعشة التي تذكرني كثيراً بالطفولة، والفنان بالنتيجة هو ابن بيئته.
* كيف وجدت مذهب التجريد كتصعيد للحالة الحسية التي تمرين بها في العمل التشكيلي؟
** التجريد: تبسيط للشكل واللون والمساحة، للسماء والأرض والبشر، إنه يختصر الزمان والمكان في ضربة فرشاة ضمن العمل الفني، وهو الذي يطلق حرية الفنان ضمن الفراغ كي يعبر عن مكنوناته وعوالمه، وأنا واحدة من الفنانات التي استطاعت أن تترجم أحاسيسها وأفكارها من خلال هذا الأسلوب .
* المتناقضات بعد فلسفي بحت، ما قراءتك لها عبر هذا البعد؟
** عندما اخترت موضوع الليل اخترت الظلمة والنور، اختزلت الليل والنهار لأنهما يعنيان لي ببساطة اليأس والأمل، ففتح لي هذا باب المتناقضات التي لا حدود لها أعبر عن الحزن والفرح أو الأسر والحرية أو الخير والشر أو الظلم والعدل أو عن نافذة الخلاص بالأمل المنتظر.
عندما أرسم لوحة بألوان معتمة أشعر أنه يجب أن أضع تلك البقعة اللونية التي تنير ظلام اللوحة، ولا معنى للوحة بدونها، فلا أجد نفسي إلا وقد وضعتها فكلاهما لا غنى لهما عن الآخر، لأن الحياة ليست لوناً واحداً بل هي عبارة عن الأسود والأبيض.
* لمسة النور وسط الظلمة غي العمل التجريدي، ما هي إلا هروب من ضغط نفسي ، ما قراءتك لهذا الطرح؟
** بؤرة الضوء في العمل التجريدي نافذة الخير في عالم الشر، إن ذاكرة الإنسان ليست خالية من الأحزان والأفراح، فكل إنسان لديه فرح وحزن، إحباط وتفاؤل، دمعة وابتسامة، الحياة يجب أن تكون متنوعة ويجب أن تعاش بمرها وحلوها، وإلا كيف سنعيش جمالها الذي يحدث بهذا التنوع؟
* "القاملشي" ماذا توحي إليك؟
** "القامشلي" هي أنا وأنا هي، إنها جزء لا يتجزأ مني متغلغلة في أعماق روحي، أشتاق إليها كثيراً إلى سهولها الخضراء الواسعة وسنابلها الذهبية، أحن إلى موسيقى جبالها ونسماتها الصباحية مع تغريد العصافير وتموج زهورها البرية، أحن إلى نسماتها الهادئة التي تبث الحياة في الروح، وإلى مغيب شمسها عند الأفق الذي يعد بقدوم يوم جديد وشمس أخرى ستشرق.
في سطور
ولدت الفنانة "خناف صالح" في "القامشلي"، تخرجت في كلية الفنون الجميلة جامعة دمشق قسم التصوير الزيتي في عام /2004/، ثم أجرت دراسات عليا في التصوير الزيتي في كلية الفنون وتخرجت في العام /2006/، ولها مشاركات مختلفة في معارض مشتركة.