ديوان "ضيعتي" لفؤاد الوهراني
ضياء الصحناوي - السويداء
ينطلق الفنان العالمي "فؤاد الورهاني" دون أن يقصد في ديوانه الشعري "ضيعتي" الصادر حديثاً أن الشهرة العالمية لا تكتسب بضربة حظ، فقد انطلق من قريته "الكارس" حاملاً معه ذاكرة المكان والزمان، ناشلاً من ذلك الجب العميق كل ما استطاع إمساكه بإزميله الحديدي، أو بريشته اللينة أو بالكلمة الناطقة بلهجة أبناء قريته،
ومن هنا انطلق ديوانه الشعري باللهجة المحكية الذي يكتسب أهمية استثنائية كبيرة كونه يوثق بالكلمة واللوحة لكل ما يتعلق بالحياة القديمة من عادات وتقاليد وقصص وحكم وأمثال شعبية محلية، وكل ما يتعلق بالأعمال التي يقوم بها الرجال في الأرض والنساء في البيوت.
وهو يشرح بشكل مفصل كل مصطلح موغل في القدم من أجل تسهيل فهمه وتقديم تلك الحياة البسيطة وحفظها ندية طرية في القلوب والعيون.
انطلق "الوهراني" في عمله الأدبي الأول من خلال بيت الشاعر "أحمد شوقي": " وطني لو شغلت بالخلد عنه"، ويوقل: .. هكذا كان يبدو لي المشهد بعد غياب طويل عن المكان الأصيل، . المكان الذي نشأت في شمسه وهوائه ومائه وترابه البني، وهو الذي دخل دمي مراراً عديدة مع كل جرح أو "دعثورة" من جراء اللعب والمشي حافي القدمين، عندما كنت وأترابي نعالج هذه المشكلة بأخذ التراب وكبسه على الجرح حتى ينقطع النزيف، وهكذا يجري تراب قريتي "الكارس" في دمي عقوداً لينزف حنيناً دون انقطاع كلما ابتعدت عنها، ومن هذا المشهد انطلقت..
(هذي قصص من ضيعتي... عا فرقتا يا ليعتي .. كانت بئيدي وطيعتي .... يا ضيعتي لعم بذكرا ..يا كروم عنب وشوشرا .. ويا وادي من حدا جرى .. ومصطاح زبيب ومعصرى .. وطاسي وخوابي ومحفرا... وسراج وطاقة مشحترا وفيها لجدي مقبرا .. كيف صارت يا ترى؟.): المضافة بشكلها ومفروشاتها من السجاد العجمي والبسط المصنوع من الصوف المحلي، والموشى بألون الطبيعة، إلى أطباق القش المصنوعة من خصل القمح النابت بالعرق، إلى دلال القهوة المرة والمهباج والمحماسة، إلى المنسف العربي المليء بأشكال الطعام من كبة ولحم وسمن عربي طالع من ضرع أغنام سارحة في خضرة الأرض وزراقها، وصوت صاحب البيت يتصاعد فخراً .. (يا ميت أهلا وسهلا).
هكذا صاغ كلمات القصائد كما تلفظ، وحاول بقدرة عجيبة صوغ المفردات الجبلية العتيقة كما المعجم، وأنزلها سلسة طيعة في قلب الشعر، وكأنه مخلوق في بداية القرن الماضي أو ما قبله، حيث تكتشف وأنت ابن الجبل أن الكلمات صعبة قليلاً عليك، لكنه لا يتركك للحيرة فهو يشرحها لك بالتفصيل بلغة جميلة سهلة الفهم والاستيعاب واضعاً في الاعتبار تطور الزمن وانتفاء الكثير من المصطلحات التي ترافق العادات والتقاليد والأعمال القديمة حيث اندثر أغلبها فضاعت كلماتها مع من ضاع ورحل وغاب..
ويقول:" سوف تكتشف بنفسك طريقة الكتابة، إذ أتت على طريقة (قل من استعملها من قبل في الشعر المحكي)، وهي كتابة الكلمة كما تلفظ، مثل (ريحت لكشك بلبيت عبق) بدل (ريحة الكشك بالبيت عبق)، وقد تختفي أحرف مثل ألف الإطلاق مثلاً، أو لام التعريف في حالتيها القمرية والشمسية وغير ذلك.
وقد كتبت القصائد باللهجة المحكية المحلية دون إتباع لهجة البادية خصوصاً، أو تلك المتبعة في الأشعار الحماسية والفخرية التي كانت وما زالت تعتمد على الفخر والبطولة. وقد قيلت عمداً كي يسهل نقل الخبر من القديم إلى الحديث عما يتعلق بتلك الأيام بلهجة المحيط المتحرك حوله من حضر وبدو عبر التنقل والمخالطة.
أما في كتابي فإني قصدت أن ألقي الضوء على هذا الإنسان البطل ليس في ساحات الوغى والمضافة والكرم فحسب، وإنما على صراع لا يقل أهمية عن هذا الظاهر، وهو ارتباطه بالأرض وما عليها من حيوان ونبات وأشجار وينابيع وعادات وتقاليد وأمثال متداولة قديمة، وقد عمدت أن تكون كما هي فصول المسرحية، وأتبعتها برسوم توثق لتلك الحالات والأدوات التي لم تعد موجودة ".
الجدير بالذكر أن الفنان "الورهاني" من مواليد العام 1949 وهو خرج من بيت فني خالص، فوالده الفنان الراحل "شاهر الورهاني" الذي ساهم مع أبنائه "فؤاد" و"غالب" في نحت قصر "موسى" في لبنان، وهاجر مبكراً نحو الغرب حتى استقر به الحال في أستراليا، وله منحوتات ضخمة وأعمال مقتناة في عدد من دول العالم، ونال العديد من الجوائز والشهادات التقديرية على أعماله، ويعتبر من أهم النحاتين في العالم.