ذاتية "يوسف الجادر".. بين العفوية والفلسفة

هيسم شملوني

تتسم تجربة الكاتب والشاعر "يوسف الجادر" الشعرية بالصدق والعفوية من جهة والعمق والتعقيد من جهة أخرى، وهذا ناتج من الانتماء المركب عنده، فهو ينتمي مكانياً إلى مدينة "جرابلس"، هذه المدينة التي تسكن أقصى الشمال السوري ولا تزال تحافظ على عذريتها وبساطة وعفوية أهلها، وينتمي ثقافياً إلى مجموعة الأفكار والفلسفات التي سبق أن درسها في جامعة "دمشق". 

عن تجربته وتعدد مناحيها كان للمفكرة الثقافية وقفة مع "يوسف الجادر" وكان أولها بالسؤال: 

*سبق أن أصدرت في عام 1996 مجموعتك الشعرية الأولى "صباح الخير يا أنا"، لماذا كان التأخير بإصدارها؟

** «كان من المفروض بي امتلاك الجرأة، فأي مبدع وخاصة في موضوع الشعر، يجب أن يمتلك جرأة كبيرة جداً للإقدام على طباعة مجموعة، لأنه يعلم أنه في لحظة من اللحظات سيقع تحت مسمى شاعر ويصدر مجموعات شعرية، فهذه الحالة كانت تؤرقني، عدم امتلاك الجرأة هذا لا يعني عدم امتلاك الإبداع الشعري، إلا أن أحد الأصدقاء المقربين الدكتور"جلال نوفل" ساعدني بإخراج المجموعة الشعرية القصيرة، كنت أريد البناء عليها لإكمال مشروعي الشعري، التأخير كان بسبب عدم امتلاك الجرأة فقط، والتأخير الثاني هو الاشتغال بمجالات أخرى تنمي الذاكرة الشعرية وتنمي القدرة على امتلاك الصورة الشعرية، إلا أنني دائماً أشعر أنها للآن لم تنضج، المجموعة الأولى قدمتني كشاعر، إلا أن المجموعة الأخرى يجب أن تعزز هذا المسمى بعد 16 سنة (لدي مجموعتين شعريات قيد الطبع)، مع ذلك أنا متحفظ على العنوان أحياناً، لأني أغير في بعض المقدمات، لأني أخشى من وجهة نظر سلبية جداً تجاه مكاني الأول أن لم تتجاوز مجموعتي الجديدة المجموعة الأولى بمسافة، فقد سبق أن وضعت على غلاف "صباح الخير يا أنا" نص من المجموعة يقول:

"المدينة المتسخة كقبضة قميصك

 اغسلها أو ارتدي غيرها.."

وكتبت ذلك عن عشقي لـ"جرابلس"، إلا أنها فهمت من بعض القارئين بسياق مختلف، أي أني خلعت مدينة "جرابلس"، ولكني أقصد العكس، فأنا خلعت "دمشق" وليس "جرابلس"، لأني شعرت أني لا أستطيع العيش في مدينة أخرى، والقيمة الجمالية للقصيدة ترفع "جرابلس" أكثر مما تضعفها، الاتساخ هو للمدينة المكتظة والملوثة، "جرابلس" أكثر نقاء وصفاء من أي مدينة قريبة منها، إلا أنها فهمت بطريقة مختلفة، وكان هناك رداحين لم يحبوا لي أن أظهر بهذه الطريقة على اعتباري أول من يصدر مجموعة شعرية من هذه المدينة، ولذلك ضعفت اتجاه المجموعة الشعرية الثانية».

* غالباً ما يكون العنوان بوابة المجموعة، في "صباح الخير يا أنا"، هل كنت تشعر بشيء من النرجسية في تلك الفترة؟

** «"صباح الخير يا... أنا"، أُخذ من نص موجود في القصيدة، الـ(أنا) موجودة بين قوسين، وبعد ثلاثة نقاط، "صباح الخير يا... أنا" لم تأت كنص متكامل، وكأن الذات تصبح على نفسها، هو أعمق وجودياً من هذا الكلام، نستطيع القول أن الأنا، هي الأنا الصوفية، التي تأخذ بعدها الآخر، أنا أخاطب الآخر، إلا أن هذا الآخر هو الأنا، من الحلول، من الاتحاد والتجلي، هناك أكثر من مسمى تحت هذا، فـ"صباح الخير يا.. أنا" هي بالفعل كمقولة مفرطة وغارقة بالنرجسية، إلا أنها غارقة بالآخر، والتحرر من النرجسية تجاه الآخر، لأن هذا الآخر الذي أصيح عليه هو العشيق الذي يشكل نصفي الآخر والصدى للشخص، فأنا في تلك المرحلة كنت أمر بحالة أشبه ما تكون للقول بأني موجود في مركز الكون أحياناً، أحياناً هي النتيجة الشعرية المفرطة اتجاه المفردات، والتذوق الشعري تجاهها، ففقد كنت أذهب إلى أبعد حدود في الجملة الشعرية، هذا شكل عندي أشبه بالانغلاق حول الذات، ليس بالمعنى النرجسي، إنما الانغلاق على الذات من مبدأ بناء الذات ثم التحول بالإتجاه نحو الآخرين، وخلال أكثر من 4 سنوات كنت أعيش في حالة أني أريد بناء عالمي الشعري المختلف عن أي شخص آخر، (في تلك الفترة هناك العشرات والمئات من المجموعات الشعرية)».

*هل أثرت دراستك للفلسفة على الحالة الشعرية لديك؟

** «بشكل طبيعي، بمعنى أننا لدينا في المنهاج الذي كنا ندرسه، شيء اسمه (الفلسفة العربية أو الإسلامية) يندرج تحت مسمى الفلسفة الإسلامية، وهذه من المفروض أن تؤدي إلى فلسفة التصوف، وفلسفة التصوف دفعتني مرغماً باتجاه الشعر الصوفي، لأن الشعر الصوفي بأحد نماذجه يشكل الحالة الصوفية البكر قبل أن تصل إلى "محي الدين بن عربي"، في هذه الحالة من الطبيعي نتيجة دراستي الفلسفة أن أذهب وأغوص تجاه الشعر الصوفي والنص الصوفي وأعمل عليه، فهذا أثر كثيراً باتجاه القصيدة الحديثة المعاصرة، القصيدة التي لا تبنى على ميزان معين، هي كاسرة كل فضاء شعري لها قديماً، لم تكسر فقط النموذج القائم والذي هو الصدر والعجز كقصيدة كلاسيكية، ولم تكسر أيضاً قصيدة التفعيلية، بل أخذت اتجاه حتى الفكر، عندما بدأنا قراءة الحالة الصوفية، الشعر الصوفي هو شعر تمردي، وهذا انعكس على النص الذي عملت عليه بأن يكون متمرداً، ولكن هذا التمرد ليس باتجاه رفض التقاليد، بل رفض الحالة الشعرية الثابتة القائمة، أن تأخذ سنبلة وتبني عليه جملة شعرية وتأخذه بمحل يذهب إليه أكثر مما آخذ مكان أو مدينة، قد أجد في السنبلة انعكاس لواقع كامل شعرياً أكثر مما أبني على ثقافة وتاريخ عشت به شعرياً، الفلسفة جعلتني آخذ الشعر أكثر تمرداً».

*في معظم ما كتبت كان هناك حالة حزن عميق، حتى أنها كانت قد ظهرت في بعض الأحيان كحالة سوداوية أكثر منها كحالة تمرد.

** «تغير الكثير من إتجاه تلك المرحلة، إلا أنها كانت أساسية لصلابة ما سيأتي، والذي أتى كان إيجابياً اتجاه البحث والشعر، واتجاه أعمال أدبية أخرى، ولكن تلك الحالة كانت مهمة جداً وأساسية، بالنسبة لي شخصياً، إلا أنه كان لها أثر موجع على ذاتي الفيزيائية وذاتي الشعرية، ذاتي الفيزيائي بدأ فيها انعكاس لما هو داخلي، فكان الداخلي يظهر على الخارج فوراً، فكان أي شخص يلتقيني يشعر بالسوداوية التي تسكنني، وهذه السوداوية جعلت مني شخص برغم انفتاحي اتجاه العلاقات الموجودة، إلا أنه كان لدي ركن اسمه الذات، فالمكان الذي كنت أقيم فيه في المرحلة الجامعية، كان عبارة عن غرفة لا تتجاوز مساحتها 12 متر مربعاً، وربما هي أقل من ذلك، كان فيها كل وسائل العمل على الذات الفكرية، أن أقرأ وأقرأ وأستمر بالقراءة، لدرجة تجعلني أشعر أنه لا يوجد أحد في العالم حولي إلا هذا الكتاب، هنا كانت الخطورة التي أصبحت سوداوية، لكن هذه الحالة السوداوية لم تستمر، وتغيرت كثيراً على يد كثير من الشخصيات ومن بينهم زوجتي، التي استطاعت أخذي باتجاه آخر، إن الحياة تحوي شروطاً معقدة، فيمكن أن أبني فيها وأبقى سوداوياً، وهذا أوصلني لحالة أخذتني إلى بر الأمان أكثر، ربما لو بقيت في تلك الحالة لوصلت إلى حالة عالية من النرجسية، كالتي انطلقت من "صباح الخير يا... أنا"».

*هل تشعر أن تلك السوداوية حرّضت الذات الشعرية عندك باتجاه أن تكون أكثر صدقاً في التعبير؟

** «نعم، الحالة السوداوية كانت أصدق، لأنه كان لأي جملة غنائية، أو جملة شعرية، أوأي مشهد، أو حالة اجتماعية، كانت تغرق فيها الذات، باتجاه التعامل معها بصدق أكثر، وبالتالي كانت توصل الجملة الشعرية بدون أية تلاوين، بدون أية معرفة بطبيعة القصيدة، أذهب بها إلى صفائها وصدقها، ولذلك تجد ضمن الجملة الشعرية التي أكتبها تناقض وتنافر، لأنها مبنية على ذات شعرية اسمها "يوسف الجابر"».

الجدير ذكره أن الأستاذ "يوسف الجادر"، ناقد وباحث موسيقي، ناشر في الدوريات المحلية والعربية، مجاز فلسفة، إضافة لكونه كاتب للشعر. مقيم في دمشق، البلد الأصلي (جرابلس) في حلب، لديه مشروع رواية يعمل عليها في الوقت الحالي.