رؤوف البيطار.. لوحات فسيفساء في توثيق بلاد الشام
علاء الجمّال
"بدأت العمل على فن الفسيفساء الخشبية بعد جملة مواقف وأقوال حادة تعرضت لها سابقاً، فكان موقفي رد فعل قوي أيقنت من خلاله أن الحياة تحتاج إلى الفطنة والذكاء والعمل على تشكيل إبداعي لم يتطرق إلى عمله أحد قبلاً، من هنا بدأت رحلتي".
هذا ما قاله الفنان التشكيلي "رؤوف بيطار" في بداية حديثه للمفكرة الثقافية حول بداياته مع الفن التشكيلي، وذلك أثناء زيارته في19/10/2008 في منزله بمدينة "اللاذقية"، وأضاف: «كوني أتمتع بخبرة فطرية في الرسم الميكانيكي، أقدمت على تصميم 37 مخططاً ميكانيكياً للعديد من الآلات، حولت جميعها إلى الجامعة لتدرس كفن جديد، وأثناء بحوثي عمدت إلى صنع اختراعات تقنية حول علم الميكانيك بقيت كنماذج تنم عن رؤيتي ومعرفتي في تلك الفترة، فقد توقفت عن الرسم والتصميم نظراً لضعف النظر الذي أصابني فقررت البدء بخراطة الخشب مستفيداً من رؤيتي السابقة في علم الميكانيك، فعملت على آلة الخراطة باجتهاد، وكونت فيها طرقا معينة للعمل، وحولت خامة الخشب إلى أساور وعلب متنوعة الأشكال، وتكوينات مخروطية مفرغة من الداخل وغيرها.. وما أن مضى ستة أشهر حتى أقمت معرضي الأول الذي ضم ما يزيد على 1400 قطعة مخروطة مختلفة الأحجام، نالت حيزاً من الاهتمام ».
حبيبات خشبية عوضاً عن الرخام
عمل الفنان على تشكيل الفسيفساء الخشبية، مستوحياً موضوعها من تاريخ بلاد "الشام" وما سلف عليها من أحداث وعظماء، وحول هذا الجانب قال "بيطار": «أنا مولعٌ بمعرفة الآثار السورية وتاريخها العريق، وإحدى المصادفات جمعتني برؤية إعلامية تتعلق بتركيب الفسيفساء، من قص الرخام ونحته وتحويره إلى مكعبات صغيرة الحجم توافق الشكل البصري الذي سترصف عليه، عندها تراءى لي أن أقوم بصنع فسيفساء مماثلة لكن من حبيبات ومكعبات خشبية عوضاً عن الرخام ».
وأضاف: «استخدمت لإبداعي الجديد خشب "الزيتون والليمون والتفاح والجوز"، وأول لوحة أنهيتها كانت في غاية الصعوبة لعدم توفر قدرة تقنية للعمل، وبعد عدّة نماذج من التجريب والعمل المتواصل، أنتجت 50 لوحة تشكيلية من الفسيفساء بقياسات مختلفة، عمدت في موضوعها المعرفي إلى توثيق تاريخ بلاد "الشام" بعظمائها وأختامها، متعمقاً بالوثائق التاريخية عن طريق الدكتور "وديع بشور" باحث في التاريخ، إضافة إلى مديرية السياحة التي أفادتني بالوثائق والصور المؤكدة للعظماء والأختام، أحللها بدوري ثم أثبتها على الألواح الخشبية وأرصفها بحبيبات ناعمة من الخشب يبلغ ضلعها حتى 7ملم، وهكذا حتى تشكل معرضي الدائم في مرسمي في مدينة "اللاذقية"، وهو سلسلة توثيقية مرجعية لا تتجزأ من تاريخ "بلاد الشام" والمعارف التي مرت عليها».
وذكر "بيطار" بعض المختارات من أعماله قائلاً: « تنوع الغنى الأثري في أعمالي. لقد جسدت ملحمة "زنوبيا، وجلجامش، وحمورابي وملكه الحارس"، والعظماء "تالس، وفيثاغورس، وزينون الفينيقي، وأبلودور الدمشقي" كذلك أعمال صورت فيها مشاهد قداسية، وطاولات زخرفتها برسوم من التاريخ، كما أتممت تركيب فسيفساء كاملة لواجهة كنيسة "اللاتين" في "اللاذقية"، وأسعى في راهني إلى توثيق تاريخ "سورية" مهما بلغ عدد وثائقها ومخطوطاتها».
وفيما يتعلق بالفارق بين أعماله والفسيفساء الحجرية، قال: «إن المفارقة تنحسر بعدم وجود مساحات وخطوط مفرغة بين الحبيبات الخشبية الصغيرة في أعمالي، كما أنها أدق من حيث التشريح في تفاصيل الوجه والأصابع، وأقرب إلى الروح الإنسانية على عكس الحبيبات الرخامية، التي يصعب التحكم بها لأنها لا تتكيف مع الميول الدقيقة في الأماكن التي تتطلب تشريحاً قوياً».
وأضاف: «أعمالي ما هي إلا إشباع للذاكرة البصرية على مختلف أجناسها في الثقافة والفكر، وطرح لحسي ورؤيتي في الفن التشكيلي، وهو إيجاد القديم والتأمل به ودراسته في الباطن والعمق».
عمل يتطلب الصفاء والاستقرار النفسي
حول أعمال الفنان، قال الخزاف السوري "علاء الدين نبهان": «جسد الفنان "رؤوف بيطار" بكل صدق نوعا من المشاعر الداخلية، المكنونة في تراث وطنه، يصوغها فناً إبداعياً يحمل تكنيكاً جديداً في تركيب الفسيفساء، ضمن مفهوم اللوحة الخشبية المرصوفة بحبيبات ناعمة من الخشب عوضاً عن الحجر الرخامي، مؤكداً فكرة اللون الطبيعي من خلال تعدد ألوان الخشب الذي يستخدمه في رصفها وتركيبها».
وأضاف: «"بيطار" لا يلجأ إلى إضافات أخرى على الخامة، يكتفي بها كما تكونت في الطبيعة، حتى تلتحم بفطرية أكثر عمقاً مع الموضوع الذي تجسده اللوحة، وكرس لأجله الكثير من الوقت والعمل المضني الذي يتطلب الصفاء والاستقرار النفسي».
في سطور
"رؤوف بيطار" فنان تشكيلي سوري، ولد في "اللاذقية" عام 1958، عرف عنه نبوغه الفكري، وقدرته على التحليل والإبداع، عمل في بداياته مصمماً للرسم الميكانيكي، وتبعاً لظروفه الحياتية، هجر عمله في الرسم ليعتكف عالم الفسيفساء، والبحث في التاريخ السوري وتوثيق ملاحمه وصور عظمائه بهذا الفن.