رحلة الكتابة من "أور" إلى "أوغاريت"(2)
رسوم الكهوف .. الصحف الأولى
كمال شاهين
تشير الرسوم المكتشفة في عدد من الكهوف حول العالم، أنها تزامنت مع ظهور الإنسان وحركته وانتقاله في بقاع العالم القديم حسب نظريات الهجرة.
وعلى مايبدو أنها سبقت اللغة الصوتية، وتزامنت مع اللغة الإشارية، لا بل كانت هي الوسيلة الأولى للتعبير لدى أجدادنا، فقد كانت أول صحيفة مطبوعة ابتكرها الإنسان للتعبير عن أوضاعه وشرح أحواله ونقل أخباره إلى المحيطين به وإلى الأجيال التالية، ويتضح تأثير علاقة الفرد بالبيئة عبر نوعية هذه الرسوم وموضوعاتها المتكررة في كثير من الاكتشافات الكهفية.
من أكثر الرسوم توارداً في هذه الكهوف رسوم الحيوانات، ولعل المصادمة الأولى للكائن البشري كانت مع جيرانه هؤلاء، ويبدو أنه تعلم الكثير منهم، وآخر ما تعلمه منهم كان الصوت.
أكثر رسمة وجدت هي الثور البري (وهذه لها دلالتها الكبيرة)، ومن ثم الفيلة (الماموث)، ثم النسور، ورسوم أخرى أقل انتشاراً تتعلق بالحياة اليومية للإنسان.
في موقع "الجرف الأحمر" في "عفرين" شمال "حلب"، قدر الباحثون عمر الرسوم المكتشفة هناك بحوالي 80 ألف عام، نقبت في الموقع بعثة أثرية سورية يابانية توصلت للكشف عن أقدم متحجرة في المنطقة، وهي هيكل عظمي بشري لشاب نياندرتالي (80000-35000 ق.م) مدفون بعناية في تله حجرية داخل كهف، كما وجد استيطان مشابه في كهوف "شنايدر" شمال العراق، ومما وجد رسوم للنسر المقدس في "الجرف الأحمر". ([1])
هناك كهوف كثيرة حول العالم حفظت الرسوم الأولى بصحة جيدة إلى حد جعلتها اليونيسكو من تراث البشرية الذي يجب الحفاظ عليه، ففي الصحراء الجزائرية مثلاً، على الحدود مع "ليبيا"، تم العثور على عشرة كهوف في منطقة "تاسيلي" تضم مجموعة من الرسوم المقدر عددها 15 ألف رسمة تصور مختلف أنواع النشاط البشري من تربية حيوان في بيئة غنية بالمياه، إضافة إلى رسوم لكائنات ومركبات فضائية غريبة الشكل وتشكل لليوم لغزاً لا يعرف له تفسير حتى الآن، وقد قدر زمن رسم تلك الرسوم إلى ما قبل 6000 عام من الميلاد واستمر الرسم فيها حتى القرن الثاني بعد الميلاد، وهذا الوقت يتزامن مع نشوء الحضارات الأولى في منطقة المشرق العربي في بلاد الرافدين والشام ومصر.([2])
كذلك من الرسوم المشهورة رسوم كهف "لاسكو" جنوبي "فرنسا"، ويقدر (حسب الكربون المشع) أنها رسمت بين 15 ألف إلى 13 عام من الآن، وتضم أكثر من 600 رسمة لحيوانات ورموز أخرى محيرة، وقد استخدم في صناعتها العديد من المواد الطبيعية التي حافظت على وضعها حتى بعد مرور هذه السنوات الطويلة، وهو اليوم ممنوع على الجمهور مخافة تخرب الرسوم وتأثرها بعوامل بشرية، وهناك رسوم في كهوف في جنوب "ليبيا" (تبليسي) والأرجنتين وأستراليا وفلسطين ومصر وغيرها.
هذه الرسوم مهمة جداً في فهم تطورات رموز اللغات في الحقب اللاحقة، وقد كانت بداية تسجيل اللغة لنفسها، فالإنسان بما هو كائن "مقلد" و"ابتكاري" في نفس الوقت، قد استفاد من البيئة المحيطة به لتطويع حاجاته بمقتضاها، ومن أهم هذه الحاجيات ضرورة توثيق علاقاته مع الآخرين من محيطه ونقل خبراته إلى الأجيال القادمة، وهذه ميزة بشرية مستمرة، فهذا الكائن بما يحمله من دماغ يعرف نقاط ضعفه وقوته وأن الأجيال القادمة ليس من الضروري أن تبذل نفس الجهد الذي بذله في نفس الموضوع أو التجربة الحياتية، سواء كانت صيداً لفيل الماموث أو زراعة لأول بذور الحنطة.
يساعدنا فهم الرسوم الأولى التي التقطت من كهوف ومناطق مختلفة من العالم على فهم نظرية "اللغة الأولى" المفترض أنها اللغة الأساس لكل البشر قبل أن "تتبلبل" ألسنتهم بحسب "التوراة"، مع أن نظرية اللغة الأولى الأم تتعارض مع الظهور المتعدد للحضارات في العالم، فلا رابط أبداً بين لغات المايا الإشارية ولغات مناطق أخرى في العالم مثلاً، كذلك تبقى نظرية افتراضية نقاشية دون وجود ما يؤكدها أنثروبولوجياً وأثرياً.ولذلك سوف نحاول هنا فهم هذه الرسومات بالقدر الذي يفيد في تكوين صورة شاملة لظهور اللغات الكتابية في العالم وفي منطقتنا العربية على وجه الخصوص.
إن أهم الرسوم التي وجدت على جدران الكهوف كانت الثور البري، ومن ثم الفيلة، والنسر، والأسهم، والقوس والنشاب، والشمس والقمر والأشجار والأنهار والناس الصيادين أنفسهم، ومع ظهور الزراعة في "تل النطوف" والاستقرار في أبي هريرة وتل العبيد، ظهرت رسومات أخرى على جدران المعابد، احتاجت هذه الحقبة قروناً طويلة لا يمكن التكهن بمدتها الزمنية، إلا أن هذه الرسوم أثرت كثيراً في نشوء الكتابة الصورية لاحقاً.
فرمز الثور البري على سبيل المثال كان يرسم كاملاً، ثم اقتصر لاحقاً على رسم رأسه بسبب السرعة أو ضيق المساحات أو لعوامل أخرى على ما يبدو لا ترتبط بالحاجة، هذه العوامل المسببة لهذا الانتقال الرسومي قد يضاف لها الكثير مما نخمن نحن اليوم، ومما لا نستطيع التخمين، فقد يكون الأمر برمته إذا ما أخذنا طرق التفكير الإنساني بعين الاعتبار مجرد "رغبة" ذاتية من ذلك الكائن الذي أصبح بنظرنا عبقرياً، وقد أخذت هذه المرحلة زمنياً وقتاً غير معلوم غير أنه من الواضح أن هذا الانتقال هو السيناريو الأكثر قبولاً ومنطقية.
تشير أغلب المصادر ذات الثقة إلى أن ظهور الأشكال المحرفية الأولى كان في عدة مناطق متزامنة من تاريخ المشرق، في "مصر" والكتابة السينائية الصورية، وفي "سورية" في مناطق الاستيطان الأولى من "الجزيرة"، والأكثر توثيقاً هو في "سومر" جنوبي العراق، حوالي 3200 ق.م، ويقسم الباحثون ظهور الكتابة إلى ثلاث مراحل رئيسية متفق عليها بشكل كبير، هي حضارياً وفق التالي([3]):
1- مرحلة ظهور الكتابة الصورية pictographs: وقد لحقت لمرحلة الحقبة العبيدية (نسبة لتل العبيد في وسط العراق تقريباً) التي شارفت على الاختفاء بعد أن رسخت جذورها الحضارية عبر اختراع الفخار العبيدي الملون وتأسيس المدن وتنظيم الري، وهم في رأينا أجداد السومريين والأكاديين وذلك في الحقبة بين (4000-3500ق.م)، ومع ظهور المعابد في أوروك بدأت أول أشكال الكتابة بالظهور على جدرانها كاستمرار واضح لرسوم الكهوف التي مرت بمرحلة طويلة من الحضانة حتى وصلت إلى مرحلة الكتابة الصُورية (من الصورة، أو التعبير عن الكلمة بصورة مرسومة)، وهنا ظهرت أول الأشكال الحروفية (بلغتنا المعاصرة)، حيث يتم التعبير عن كل كلمة بعلامة واحدة، فمثلاً العلامة (كو، جو بثلاث نقاط) التي تمثل أساساً رأس ثور تعبر عن الثور نفسه (وترسم بالمسمارية بثلاث خطوط تشبه هذه الرموز الرياضية حالياً <|=)(صورة رقم1 مرفقة)، وكانت الحياة الاجتماعية والاقتصادية والحضارية في تصاعد مستمر فقد بنيت المعابد وزينت واجهاتها بالنقوش والرسوم.
2- مرحلة ظهور الكتابة الرمزيةSymbols: في هذه المرحلة صار ممكناً التعبير عن الفكرة أو الأشياء المرتبطة بها أو حتى تلك التي تشي بارتباط معها، فمثلاً صورة المحراث (الصمد) يمكنها هنا أن تعبر عن الفلاح كما تعبر عن الأداة نفسها، وصورة الفم مع صورة الماء تعبر عن الفعل (شرب) أما مع طعام فتعبر عن الفعل (أكل) وهكذا، وهذه الكتابة ظهرت في مرحلة (جمدت نصر) السومرية الثانية (يترجم الاسم تغلات فلاسر أو فلاصر في المدونات العربية بصورة خاطئة).
3- مرحلة ظهور الكتابة الصوتيةPhoneme: أصبح هنا الاهتمام بالعلامات المسمارية التي لم تعد ترتبط بالأصل الذي نشأت عنه، لتكتب بواسطة الأصوات، فمثلاً كلمة (سهم) أخذت اسمها من صوته (هز، وترسم بعلامة تي، والكلمة نفسها موجودة في الأوغاريتية بنفس اللفظ)، أي أن اشتقاق الكلمات هنا بدأ يأخذ صوت الفعل ويرسم على ضوءه، مع افتراق لاحق في المعاني فكلمة (تي) التي تعني السهم كما ذكرنا، تعني أيضاً (الحياة) وهذا الاشتقاق الضدي سيصبح سمة من سمات اللغة العربية في العصور اللاحقة، فالسهم يخطف الحياة من الكائن، وهذه من التصورات الهامة لغوياً.
4- مرحلة الكتابة المقطعية Agglutinative: وأصبح الاعتماد هنا على الألفاظ الصوتية دون المعاني التي اشتقت منها في الأساس، وبدأ جمع العلامات مع بعضها البعض لتشكيل كلمات مادية ومعنوية مختلفة، هذه العلامات في أغلبها مكونة من مقطعين في أغلب لغات المشرق العربي، ويذهب الباحث "منير صبح سعيد" في كتابه "لماذا كانت العربية أم اللغات" ([4]) إلى القول باشتقاق ألفاظ اللغات من مقاطع ثنائية الحروف في أكثر من ستمائة كلمة من أصل ألف ومئتي مفردة في العربية، وعلى أساس لفظي مشتق من البيئة، ومرتبط بالعبادات القمرية في المنطقة، وهذه كانت سائدة لأوقات طويلة تجاوزت الثلاثة آلاف عام.
انتشرت هذه الطريقة من المشرق إلى بقاع مجاورة عبر التجارة، فوصلت إلى عيلام (فارس) ومنها إلى الصين والهند، ووصلت إلى مصر، ولا تخفى التأثيرات السومرية في الهيروغليفية، لدرجة قول الباحث الألماني "أ. وادل" بالأصول السومرية للحضارة المصرية ([5])، وغرباً بقيت أوروبا بعيدة عن هذه التطورات إلى ما بعد ألف عام تالية تقريباً بوصول الفينيقيين في رحلاتهم التجارية ونقلهم الحروف إلى مختلف بقاع المتوسط وتعليمهم إياها لجميع شعوبه بما في ذلك بناء مدارس في مستعمراتهم الكثيرة على طول الشاطئ المتوسطي (يقول هيرودوت أن روما لم تكن تجرؤ أن تضع قدمها في المتوسط بدون إذن فينيقيا).
المراجع:
1- الجرف الأحمر، قرية من الألف العاشرة قبل الميلاد، للباحث بسام جاموس، منشورات وزارة الثقافة السورية
2- History through Art, Cave Painting, History Magazine
3- راجع تاريخ الكتابة تختلف حسب المدارس اللغوية، المدرسة الألمانية تأخذ توزيعاً مختلفاً قليلاً عما ذكرناه هنا، كذلك الفرنسية، تشوموسكي ينظر إلى الأمر من زاوية تربط اللغة بالحاجة إلى حد كبير، ما ذكرناه هنا يستند إلى مراجع عربية بشكل رئيسي طالما أن مهمتنا هي توثيق الكتابة في المشرق العربي، "د. خزعل الماجدي" قدم في مشروعه للتغطية الحضارية في المنطقة قراءة مميزة، المذكور أعلاه من كتابه "متون سومر" الكتاب الأول، الأهلية للنشر، عمان، 1998، ومن كتاب "تاريخ الكتابة" للألماني "يوهانس فريدريتش" ترجمة "سليمان الضاهر"، وزارة الثقافة السورية، الطبعة الثانية، دمشق 2013 عن الترجمة الروسية.
4- دار المرساة، اللاذقية، 2006.
5- أصول السومرية للحضارة المصرية، أ. وادل، ترجمة زهير رمضان، الأهلية للنشر، عمان، 1999، طبعة أولى، تدقيق ومراجعة خزعل الماجدي، والكتاب يتبني نظرية آرية السومريين وأبوتهم للحضارتين المصرية والهندية، ومع أنه كتاب صدر في نهاية الثلاثينيات وتجاوزته التنقيبات الأثرية في بعض الطروحات إلا انه يستحق القراءة على قاعدة التشابك الحضاري المشرقي.