رحلة الكتابة من "اور" إلى "أوغاريت" (5)
هكذا بدأت الكتابة ... أول ثورات البشرية (ح5)
كمال شاهين
لعل الروائي الروسي "باسترناك"، فيما أتذكر، هو من قال "إن الكتابة ألم، والاسترسال فيها عذاب ولذة"، ولعل هذه المقولة تنطبق بشدة على الكتابة المسمارية، موضوع حديثنا هذا، فقد كانت كتابة متعبةً بكل ما في الكلمة من معنى، كما كانت محاولات إحيائها من الصعوبة بمكان، جعل من الأمر استحالة اقتصرت على بعض مراكز الأبحاث والأفراد من هواة العذاب المعرفي.
تطورت الكتابة الصورية إلى مرحلة اختزال العلامات الصوتية تدريجياً حتى أصبحت في أواسط العهد الأكادي ما يقرب من 600 علامة، وإذ وقفنا هنا عند حدود العام 2400 ق.م فإن إطلالة على المشهد الحضاري وقتها تقدم صورة لغوية توجد فيها عدة لغات أو لهجات ولكنها كلها تستخدم الحرف المسماري في كتابتها، فمن "أوغاريت" على ساحل المتوسط الفينيقي إلى "إبلا" وسط شمال شرق "سورية" إلى "ماري" على الفرات إلى "آلالاخ" (قرب حلب) ثم إلى "كيش" و"أوروك" في الشق العراقي الحالي، كلها تستخدم نفس هذه العلامات في تعاملاتها التجارية والحياتية والاقتصادية والثقافية والدينية أيضاً.
هذه الصورة المثبتة في اللقى الأثرية والحضارية توضح المرتبة التي بلغتها هذه المحارف في تلكم الحضارات، وتقدم لنا صورة عن العقل المبدع الذي استمر باختصار العلامات تلك حتى وصلنا إلى محارف "أوغاريت" الثلاثين بعد مئة عام من ذلك التاريخ (2250ق.م) وبعدها محارف "جبيل" الاثنين والعشرين والتي استقرت عندها أغلبية الأبجديات العالمية تقريباً بفوارق بسيطة زائداً بضعة حروف على الترتيب الشهير لها (أبجد هوز..) المستخدم في كل لغات العالم الحي حالياً.
كُتب الحرف المسماري باستخدام القصب المبري المتوفر بكثرة على ضفاف أنهار المشرق، أو الأزاميل المعدنية مختلفة الرؤوس، وعلى خلاف "مصر" التي ابتدعت البردي ليكون وثيقتها الكونية المسجلة ولكن السريعة الاندثار للأسف، فإن حضارات المشرق السوري قد كانت أكثر عملانية فاستخدمت الطين المشوي لينقش عليه أثمن وثائق الإنسانية، ولتكون تلك القطع السهلة الصنع أول أوراق البشرية، ولحسن الحظ فإن الحرائق التي أتت على كثير من تلك المراكز الحضارية قد ساهمت في تصليب تلك الألواح وتقسيتها والمحافظة عليها حتى أخرجتها معاول المنقبين الأوربيين من غفوتها التاريخية تلك، فمثلاً احترقت مكتبة "آشور باني بعل" المسجلة أول مكتبة في تاريخ البشرية ولكنها بقيت محافظة على وضعها بعد الحريق حتى في التصنيف الذي كانت فيه ([1]).
الحرف المسماري يقوم على أنماط من العلامات المنقوشة بأزاميل أو قصب مبري كما قلنا، وقد صممت في الأصل "لتمثل معاني الكلمات، وليس كيفية النطق بها"، بمعنى أن هذه الحروف كانت في زمن ابتداعها الأول اختصاراً كتابياً لكلمات بعينها، ثم انتقلت تدريجياً انزياحاً إلى معان جديدة، ثم إلى استخدامها للنطق بكلمات معينة ضمن اللغة المستخدمة، ثم أصبحت حروفاً بمعنى الحروف المعاصرة، وهكذا رأينا في حقبة القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد ست لغات تستخدم هذا النظام المحرفي هي (السومرية، الأكادية، العيلامية، الحثية، الحورية، والأوراراتية) والأخيرة كانت لغة أهل شمالي العراق منسوبةً لجبل (آرارات) الذي تقول التوراة أن سفينة نوح (وهو نفسه أوتونابشتيم في ملحمة جلجامش) قد هبطت عليه بعد الطوفان، وهو في تركيا حالياً([2])، أما الحورية والحثية فهما لغات شمالي سورية والعيلامية لغة سكان الهضبة الإيرانية، أي ما يمكن استخدام مصطلح (الشرق الأوسط) به حالياً.
هذا الانتشار الكبير لهذا النظام لا يلغي صعوبته كنظام محرفي للاستخدام اللغوي، من هنا نفهم قلة انتشار الناس الذين يعرفون الكتابة في ذلك الزمن، ونفهم أيضاً الدور الكبير الذي اضطلع به الكتاب وقتها، وقد كانت وظيفة الكاتب أحد اهم الوظائف التي تسمح للفرد بالانطلاق في عالم السلطة والثروة، يذكر الراحل "طه باقر" أمين المتحف الوطني العراقي في مقال له نشره بمجلة "سومر" إن الكاتب في العهد الأكادي كان شخصاً من علية القوم المعتبرين، ومع ذلك لم يكن ممنوعاً على الناس العاديين الاشتغال للوصول إلى هذه المرتبة، أي لم يكن النظام الطبقي مغلقاً بوجه هذه المهنة بالتحديد، ولذلك تفسيره الواضح في صعوبة الكتابة ودقتها والحاجة الماسة لها في حضارات اختارت أصعب أنواع التوثيق وطرقه، رغم أن نظماً أخرى حول العالم لم تكن أقل صعوبة كما هو حال النظام الصوري الصيني أو الهندي الأميركي الذي اعتمد مثلاً على نظام الحبال والعقد.([3]).
يتساءل الكثيرون اليوم كيف كان يكتب بالخط المسماري؟ لقد كانت عدة الكاتب كثيرة لكتابة كلمة واحدة، مع التذكير بأن تلك اللغات كلها كانت لغات مقطعية، فهناك رؤوس مثلثة من المعدن، وهناك خطوط مستقيمة وبعضها القليل منحن، ولذلك كانت الكتابة صعبة، وكنموذج يوضح هذه الصعوبة فإننا إن نظرنا نظرة فاحصة إلى لوحة الملوك السومريين المحفوظة في المتحف البريطاني تحت اسم لوح (كيش)، نرى كيف احتاج الكاتب إلى عدة أنواع من (الأقلام) لكتابة نص من أهم نصوص العالم حتى الآن، ونفهم بالتالي كل الميزات التي وهبت للكتاب وقتها، دون أن ندخل الآن طبعاً في درس لتعلم الخط المسماري ([4]).
عمت طريقة الكتابة المسمارية المنطقة حتى القرن الرابع عشر قبل الميلاد قبل أن تبدأ بالظهور أنظمة كتابة جديدة، فقضت بالتالي ألفي عام تقريباً من السيطرة المطلقة على كل أنظمة الكتابة في المشرق العربي وإيران وتركيا الحاليين. لقد كانت الدعامة الرئيسية لهذا الانتشار التوفر الكبير لمادة الطين في كل أنحاء المنطقة، إضافة إلى سهولة حمل الألواح الطينية (الكتب بلغة هذه الأيام). إضافة إلى ذلك، فإن الاشتغال عليه قبل شويه كان أمراًُ سهلاً، على أن هذا لا يكفي لتفسير بقاء هذا النظام وحيداً في كل المنطقة لمدة ألفي عام تقريباً، فحتى النظام الهيروغليفي تطور إلى رموز أقل إلا أنه بقي محافظاً على هيكليته الأساسية، فما هو السبب؟
تختلف الأبحاث في تبيان سبب ذلك وتخميناتها تتنوع تبعاً للمدارس التي تصدر عنها، إلا أن المتفق عليه بينها هو أن الكتابة لم تكن منتشرة انتشاراً كبيراً بين الناس، رغم وجود العديد من الأنظمة التدريسية في المنطقة المشرقية، إلا أن هذا لا يعني انتشاراً كبيراً للتعليم بالمعنى المعاصر، أقله لم يكن التعليم إلزامياً في ظل وجود نظام طبقي ومجتمع زراعي يعج بالأعمال اليدوية التي تستغرق وقتاً كبيراً في الحياة تلك، على أن هذا القول يبقى تخميناً في ظل وجود لغات مستخدمة في الحياة شفاهاً دون كتابة، فقد كانت السومرية مثلاً لغة منتشرة بين الناس لحقبة طويلة ولكن كتابتها الصعبة حالت دون ان تكون لغة مكتوبة لعوام الناس، وهناك العديد من الأمثلة التي تؤكد هذا القول.
في الحقيقة يصعب تفسير بقاء هذا النظام كل هذه القرون بأي سبب مقنع، وهو نفس التفسير الذي من الممكن أن نقوله بشأن سيطرة النظام المحرفي العربي منذ عام 700 للميلاد حتى اليوم في نفس المنطقة (بما في ذلك إيران الحديثة وأفغانستان وتركيا حتى مطلع القرن الحالي)، ويميل بعض البحاثة إلى القول أن البشر يتعاملون مع هذه الأنظمة كأنها ثوابت لوقت طويل بحيث لا يفكرون في بديل إلا عند مفاصل كبرى من التاريخ كتلك التي ابتدعها الفينيقيون في الساحل السوري بعد ان اختصروا العلامات الصوتية تلك إلى ثلاثين حرفاً تكفي وتفي بحاجات النطق البشرية.
في الحلقة القادمة سوف نبدأ الحديث عن اللغة السومرية والأكادية والقرابة مع اللغة العربية الحالية، وفقاً لأبحاث أثرية جديدة.
[1]مزيداً من المعلومات عن هذه المكتبة في كتاب "تاريخ الكتاب" مصدر سابق، سلسلة عالم المعرفة.
[2]ورد الاسم في النص القرآني جبل (جودي) وقيل هو موضع بالعراق، وهناك صراع علمي هل حدث الطوفان أم لا، ولكن الكثيرين يقولون بحدوثه خارج الوصف التوراتي المهيل للسفينة النوحية ويرجعه بعض الثقاة إلى ما قبل مرحلة جمدة نصر (4200 ق.م) بناء على ألواح طينية حديثة.
[3]طه باقر، "في أصول الحروف الهجائية وانتشارها"، مجلة سومر، ولم أتمكن من تحديد تاريخ العدد بدقة، فلا يوجد أية إشارة إلى تاريخه، وهو متوفر إلكترونياً على الشابكة.
[4]هي مخطوطة قديمة مكتوبة باللغة السومرية، تضم القائمة أسماء الملوك الذين حكموا "سومر" (جنوب العراق الحالي) من السلالات السومرية والسلالات القريبة، ومدد مراكز حكمهم "الرسمية". وكان يُعتقد أن أوامر مراكز الحكم هذه تصدر بأوامر الآلهة، ويمكن نقلها من مدينة إلى أخرى، بما يتناسب مع الهيمنة المفروضة على المنطقة. طوال العصر البرونزي، تطورت الوثيقة إلى أداة سياسية. النسخة النهائية والوحيدة، يرجع تاريخها إلى العصر البرونزي الأوسط، وتهدف إلى إضفاء الشرعية على مطالبات "إيسن" للهيمنة عندما كانت تتنافس مع "لارسا" وغيرها من دول المدينة جنوب بلاد ما بين النهرين (عن ويكبيديا).