"سعد يكن": عمق الثقافة التجريبية للفنان توصله لرؤية مختلفة للعالم
حين يصبح فنان عالمي صديقا مقربا، يصبح الحديث عن فنه وعالمه أمرا اشكاليا ومؤرقا، فالصداقة تفرض رأيا، والواقع يفرض رأيا آخر، لذلك كان لابد أن يكون الحديث ذا خصوصية تتضمن رواية الفنان حول موضوع محدد بحد ذاته.
موضوع سيأخذنا إلى التعرف على واقعه وإحساسه وتعبيراته من خلال تجربة هي أقرب إلى الفلسفة والدهشة، منها إلى لوحة بصرية فقط.
الفنان التشكيلي "سعد يكن" أراد أن يكون لقاءه الثاني الذي كان بتاريخ 30 تشرين الأول 2014
لموقع "المفكرة الثقافية" لقاء جديدا ومختلفا في حديثه عن الفن بين الثقافة والواقع، وكانت البداية بقوله: " لاشك أن استمرار تجربة الفنان في حياته الفنية يخضع لمتغيرات دائمة، وذلك حسب المفاهيم الفنية السائدة في كل مرحلة من مراحل تجربته التي تخضع بدورها نتيجة التغير الدائم إلى محورين: الأول علاقته مع العالم الخارجي، والثاني والأهم العلاقة مع الذات، ولذلك يكون ارتباط الفنان بالثقافة بنفس العمق التجريبي للحياة الثقافية في المرحلة التي يعيش فيها. ومن هنا هو ليس مطالبا بالثقافة ضمن المفهوم العام، وإنما أقول إن بعض الفنانين الذين اعتمدوا النزعة الجمالية في انتاجهم الفني مثل رسم الطبيعة الصامتة دخلوا على الغالب في رؤية شكلية أو تكاملية لها علاقة بمفهوم اللوحة، وهو مفهوم الجمال المباشر أو الجمال السطحي أو بما ينسجم مع أمية العين في المنطقة، لذلك في أحد مراحل الفن كان هناك من يقول عن لوحة ما إنها لوحة ناطقة بمعنى أنها تحاكي الواقع جدا فكانت مثالا لأهمية الفنان وجودة اللوحة التي يقدمها، لكن هذه القضايا تغيرت وأصبح على الفنان أن يكون مطالبا بمواقف مختلفة عما هو محاكاة للواقع أو الحدث المحيط فيه وهذا لايلغي ماهو عام".
في بداية السبعينيات كانت فكرة الفن للفن، والفن للمجتمع فكرة أدت لكثير من المداخلات المهمة والمباشرة لخدمة وتوعية الانسان، وعن ذلك تابع حديثه:" ضمن مداخلات المفهوم الماركسي للفن كان يقال: قل لي لمن ترسم أقل لك من أنت، وهذه الفكرة كان لها مريدين وفلاسفة، ثم جاءت مفاهيم العولمة وتأثير التجربة على الفنان، ثم مفاهيم انعكاس اللوحة على الواقع وانعكاس الواقع على اللوحة، ومعظم النقاد اشتغلوا على فكرة أن الفن انعكاس للواقع. أنا أرى أن كل ذلك هو مفاهيم لاأريد التعليق عليها ولكن أريد أن أقدم رؤيتي الشخصية التي تقول إنه من الممكن أن يقال إن هناك فنان مهم لأنه يعكس الواقع بطريقة واضحة ومميزة وجريئة تحاكي الحدث الواقعي أو المأساة الطبيعية في لحظة من اللحظات، ولكن بقدر أهمية الثقافة بشكل عام للانسان فهي مهمة للفنان بشكل خاص. الفنان مطالب أن يكون مثقفا ثقافة معرفية ليحدد موقعه وموقفه من العالم، وهذا الشيء لايمكن أن يأتي من فراغ، فالثقافة هي المخزون الأساسي للفنان فنيا وأدبيا وحتى شعريا، لذلك تملص الفنان من الواقع بشكل أو بآخر ومزج هذا التملص بالثقافة المعرفية القائمة من التجربة اليومية أولا، و من خلال الاطلاع ،والثقافة، والقراءة، والمعرفة، والدخول في عالم الانترنيت ثانيا، كل ذلك أجبر الفنان أن يقدم بالنتيجة مواقف واضحة من العالم بالواقع وليس من الحدث الواقعي، وهذا يعني أن تسجيل الحدث الواقعي أصبح قضية مرهقة بسبب التطور التقني للكاميرا، لأن المصور الفوتوغرافي يستطيع تقديم وإظهار المآسي الانسانية بشكل مدهش من خلال التقنيات الحديثة أكثر بكثير من الفنان التشكيلي، فالكاميرا يمكن أن توصل للعين هذه المشاعر والأحاسيس بقوة أكبر وأقوى وأنقى في حال كان المصور محترفا، ولذلك أنا أرى أن العلاقة بين اللوحة الفنية والصورة علاقة جدلية ومهمة جدا، فالخروج باللوحة من الصورة الفوتوغرافية يحتاج إلى جهد ذهني وفكري وتجربة عميقة بالذات من خلال علاقة الفنان مع العالم، مايعني أن الفنان بحاجة لعمق وبحاجة لخروج عامودي عما هو سطح أفقي يقال إنه الواقع".
ثم أضاف:" الشيء الوحيد الذي يمكن أن يدعم هذا الخروج هو الثقافة، فعمق الثقافة التجريبية للفنان يمنحه امكانية الوصول لرؤية مختلفة للعالم للعالم المحيط فيه إذا كان العالم بحاجة للفنان، لأن العالم بحاجة لرؤيته الشخصية للكون وللأشياء وليس فقط لألوانه وموضوعاته وجمالية أشكاله التي يرسمها، وجمالية نسائه في اللوحات، أو المآسي الواقعية والحروب التي تحدث في المنطقة. كل هذه الأشياء المباشرة تستطيع الكاميرا أن تقدمها بطريقة هائلة وجميلة جدا، وهذا الموضوع صعب لأن مهمة الفنان تاريخيا باتت تحيجه لعمل قفزة نوعية عن الشكل الواقعي، فعندما نذهب إلى أي معرض حالي مثلا نشاهد المأساة السورية التي يمر بها بلدنا من خلال الدمار والتخريب، والحقيقة برأيي أن الكاميرا هنا هي الأبلغ بإيصال هذا الواقع من اللوحة، لأن الانسان يتأثر عادة حين يرى ذلك في اللوحة. إذن الخروج من الشكلانية للحدث هو خروج ثقافي وخروج معرفي".
أن نطالب الفنانين أن يكونوا مثقفين، وأن يبحثوا عن رؤية متميزة، وأن يكون لديهم تقنيات عالية فإن ذلك يعني أن دور الثقافة في حياة الفنان يجب أن تجعله مؤهلا لعيش تجربة فنية ضمن استعداداته الشخصية للوصول إلى رؤية مختلفة عما هي في الواقع بحيث تكون تجربة عميقة لدرجة الادهاش، ولدى الفنان "سعد يكن" رؤية خاصة في هذه القضية فقال: " في بداية القرن الحادي والعشرين كانت الصعوبة لدى الفنان في تجربته الفنية تأتي من خلال بحثه عن صياغات مختلفة ليست بالضرورة تقنية لأنها تقنيات تجريبية سهلة، لكن البحث عن الحداثة حسب رأيي يجب أن يكون بالعمق الفني وليس السطحي للوحة، فهناك الكثير من الفنانين الذين يعتقدون أن البحث عن تقنية جديدة، أو أشكال مباشرة للوحة لتكون غير مألوفة مسبقا هو الحداثة، بينما في الواقع الصعوبة الأكبر هي أن يكون هناك رؤية عند الفنان مع العالم الخارجي الذي يعيش فيه من خلال انتاجه، لذلك يجب أن يؤدي هذا الانتاج وهذا الوعي إلى شكل مختلف عما هو في الواقع المباشر للعين العادية للوصول إلى قيم تخرج عن المألوف، وبنفس الوقت تكون في صلب وعمق الحالة الانسانية التي يعيش بها الفنان بعلاقته مع العالم المحيط فيه والعالم ككل".
التميز لدى الفنان حسب رأي الأستاذ "يكن" يأتي من خلال ادراكه الثقافي، والتقنية العالية التي يتمتع بها ،ويضيف: " أنا أتحدث عن الفنان وليس عن التجربة الفنية لبعض الفنانين، لأن الفنان كإنسان لايستطيع الارتباط بالواقع كيوميات، ولكن انتاجه الفني يمكن أن يخرج من الدائرة المباشرة لما يعيشه الفنان في الواقع، لأن الفن مادة بصرية، والانسان تاريخيا لم يتغير، وكذلك الكراهية، والحب، والعدائية، والألفة، فكلما استمر بانتاجه أكثر كلما صعبت عليه الأمور بشكل أكبر، وذلك بسبب التقنيات الكبيرة المقدمة، والتجارب الانسانية نفسها، وهذا يعني أن على الفنان التخلص من شكلانية الحالة التي استمرت منذ مئات السنين بدءا من الانطباعية إلى الواقعية، إلى الكلاسيكية، وعليه أن يوسع من أفقه للوصول إلى رؤية انسانية شمولية مرتبطة بحياته اليومية وبالعالم من خلال مايحدث في الوطن أو المنطقة".
الحديث مع الفنان التشكيلي العالمي "سعد يكن" لاينتهي ببساطة، ولايمكن الاكتفاء من بعض أفكاره الثرية ببساطة أيضا، لكنه حين يعدنا أن يكون كريما دائما بالحوار معنا عن كل مايستجد في عالم الفن التشكيلي واشكالياته، خاصة مايتعلق منها برغبته الحديث عن دور المؤسسات الثقافية الداعمة للفن، فإن للحديث لقاء آخر.