"سعيد نصري":جماليات الخط العربي شديدة التأثير على الذاكرة البصرية
علاء الجمّال:
"سعيد نصري" فنان عربي أمضى الجزء الأكبر من حياته مغترباً بين دول العالم، العربية والأجنبية، ينهل من ثقافاتها ومعارفها، متخذاً في بحثه التشكيلي "الحروف وآيات القرآن والأسماء الجليلة"، محوراً للتصور والتكوين، مستخدماً في إنجازها "الخط الديواني والثلث والكوفي الحديث"، يصهرها مع انسيابية الألوان وتدرجاتها، لمسات ساطعة تحيط كلماته وآياته بالنور المحض، الذي حوله إلى حداثة بصرية أعادت للفن الإسلامي القديم أوجه ورقيّه.
ويُعدُّ "نصري" من الرعيل الأول بين التشكيليين السوريين، وهو المولود في مدينة "القامشلي" عام 1941، والعضو في اتحاد الفنانين التشكيليين العرب، وله 25معرضاً شخصيّاً في العالم. عاد من مغتربه إلى"دمشق" عاصمة الثقافة العربية، ليعرض حداثة تشكيله البصري، الحامل للتراث الفكري الإسلامي الأصيل.
موقع المفكرة التقى الفنان "سعيد نصري" في صالة "فري هاند" للفنون الجميلة "بدمشق"، في 23/7 /2008، واستوضحت منه عمق وسمات الحرف العربي، ومكانته العريقة في تاريخ الإسلام، وكان معه الحوار التالي:
ــ ما هو منظورك لأبعاد الحرف العربي المجسد في أعمالك التشكيلية ؟
الحرف العربي: هو الموروث الطبيعي للعالم العربي والإسلامي منذ 2000عام تقريباً، فهو الركيزة الأساسية للوحة الحروفية، ولو اطلعنا على الأوابد والآثار الإسلامية والعربية في العمارة والفنون التطبيقية "كالفرش والنحاس والزجاج" لرأينا أن الخط العربي والزخرفة العربية قد ملأت الكثير من هذه الأوابد والأدوات الاستعمالية في كل أنحاء العالم، وقد أخذت مكانتها الفنية في الاستحواذ على أفكار الناس وأحاسيسهم..لذلك كانت هذه الركيزة محور لوحاتي الحروفية منذ أكثر من 30 عاماً خلت.
ــ ماذا عن أنواع الخطوط التي استخدمتها في أسلوبك التشكيلي؟
غالباً ما استخدم خط الثلث، وقد أقمت في السنوات الماضية 24 معرضاً شخصياً بأكثر من نوع للخط العربي منه " الكوفي الحديث والديواني" وذلك ضمن لوحاتي التشكيلية، وفي أكثر من 870 عملاً تقريباً.
ــ هل تجد صعوبة في التعامل مع الخط وتشكيله في عوالم اللوحة؟
يتضح في اللوحة لدي جهد كبير، بُذل من أجل المعالجة اللونية وترابط الخطوط والمساحة، لكن هذا الجهد لا يشعرني بصعوبة العمل في تشكيل الخط، لأنني عملت أكثر من أربعين عاماً في مجا ل الفن التشكيلي وأعرف ماذا أرسم، ولي هوية مميزة في اللوحة الحروفية العربية، التي أتمنى وصولها إلى كل الناس.
اللوحة الحروفية لوحة تصويرية بحد ذاتها
ــ هناك مفارقة ما بين اللوحة الحروفية والتصويرية ذات المحتوى المعروف؟ ما تصورك لهذه المفارقة؟
لاشك أن اللوحة الحروفية، هي لوحة تصويرية بحد ذاتها، ولكن في أعمالي تتسم الحروف بطابع حداثي، لأن طريقتي في استعمال الخط واللون عبر مساحة اللوحة تعتمد على خبرة كبيرة في تشكيل الحرف وفق قواعد مناسبة أحددها أو أبدعها مما يعطينا منها مشروعاً تشكيلياً حديث. في الوقت نفسه أستطيع أن أرسم وجه مشوّه، ليس فيه أي نوعية من الجمال، وأقول عنه: «أنه فن حديث»، وأكثر الفنانين يقومون بهذه العملية سواء يعرفون الرسم أو لا، ويدّعون أن الشكل الناتج هو لوحة حديثة، فهناك إذاً مفارقة كبيرة بين اللوحة التشكيلية الحديثة والمشوهة.
ــ جمالية الخط العربي في اللوحة تعتمد على مقومات، ما هي برأيك؟
تعتمد اللوحة الحروفية بالدرجة الأولى على جمالية الخط العربي، التي يَكمّلها اللون لتغدو لوحة تصويرية حديثة، وانسيابية اللون مع الكلمة في مساحتها يخلق الجمال في الحرف ومحيطه، ومع التراكم والاستمرار، استخلصت من ذلك الجمال معرضاً شخصياً لي، يختص الخط العربي الحديث الذي لا يستند إلى قواعد أو أصول معينة في الخطوط العربية.
ومن أبرز الفنانين الذين صادفتهم وشهدت براعتهم في تصوير الكلمة العربية والحرف "نجا هداوي من تونس، ومن لبنان وجيه نحلة".
أوج الفن الإسلامي دفعني للبحث عن الحداثة
ــ الحداثة في تشكيل الخط ضمن اللوحة، متى بدأت نهضتها؟ وأين؟
بلغ الفن الإسلامي خلال القرون الماضية أوجه ورقيّه، وبات الآن بحاجة إلى "فن إسلامي حديث"، يماثل هذا الأوج والرقي، وبدوري جهدت بمهمة البحث عن الحداثة في الخط العربي مع قلة من الفنانين العرب في العالم العربي، وأعتقد أن اليقظة الحديثة "للفن الإسلامي" بدأت تأخذ طريقها بقوة كبيرة في العالم الإسلامي والغربي، مستعيدة معالم الشرق الأصيل وأوجه ورقيّه.
ــ خلال تنقلك في العالم العربي والأجنبي، كيف وجدت انفتاح الخط العربي؟ ومكانة اللوحة التصويرية، التي جسدت الكلمة العربية والخط العربي؟
معظم معارضي كانت في العالم العربي "سورية، السعودية، الكويت، قطر، البحرين، دبي، الشارقة، أبوظبي" كما أأقمت معارض في "جنيف وسويسرا وبلجيكا"، وبالطبع احتفى العالم العربي كثيراً بهذه المعارض، وكان الإقبال شديداً عليها والاقتناء كذلك، وفي العالم الغربي بدا الاحتكاك بمعارضي ضئيلاً، علماً أن معرضي في "جنيف وبلجيكا" شد الأنظار بشكل ملفت، وأذكر أن أحد معارض الفن الإسلامي في "لندن"، المؤلف من جماليات تتعلق بالتراث العربي، استمر لمدة 6 أشهر متواصلة، وحضور جماهيري مذهل.
ــ هل لي بذكرى نستحضرها من أفق الذاكرة لديك؟
كانت في دمشق القديمة، عندما رأيت معول الهدم بدأ ضرباته في معاملها وشوارعها، من هنا أقمت معرضاً مؤلفاً من 56 لوحة جدارية، كانت بمثابة ردٍّ مني على ذلك التصرف، وجعلت أطر أعمالي باللون الأسود حزناً وألماً عليها.
الآية توحي باختيار اللون لمفرداتها وحروفها
ــ في معرضك الأخير بصالة "فري هاند" اتسمت الأعمال بوجود علاقة حسّية واضحة ما بين اللون والكلمة، ماذا تقول حول هذه العلاقة؟
بالتأكيد هناك علاقة واضحة في أعمالي ما بين اللون والكلمة، وما أقوم به أعتبره موسيقى بصرية حسّية لهذه الأعمال، وكثيراً ما يتطابق اللون مع مفردات الآية التي أردتها موضوعاً للتشكيل، وغالباً ما توحي إلي الآية نفسها باختيار الألوان الخاصة بمفرداتها وحروفها على أن يتم ذلك بمفهوم تشكيلي حديث.
ــ هناك مزج رفيع الأداء ما بين التجريدية والخط العربي في كل لوحة، ما سمات هذا المزج؟ لاسيما وأنه سريع التأثير على الذاكرة البصرية؟
تعتبر لوحة الخط العربي فناً تجريديّاً بحت، ولكن لها خصوصية في العمل والرسم مستمدة من كينونة الفنان الذي يشكلها، وبالتأكيد هي دائمة التأثير على الذاكرة البصرية لدى المتأمل.
قد يسأل سائل مثلاً لا يعرف "اللغة العربية"، ويقول: «أنا لا أفهم ما هو مكتوب في هذه اللوحة، اشرحها لي»، وأنا أقول له بالمقابل" «أن "اللغة الفرعونية" رغم عراقتها عبارة عن رسوم لن تستطيع فهمها إلا بواسطة مترجم مختص بحروفها، فهي إذاً لغة مرسومة، لكنها بالنسبة إلي تبقى تجريدية كما اللغة العربية في اللوحة التشكيلية الحديثة.
ــ الملاحظ إحكامك لدرجات السطوع في صياغتك للنصوص القرآنية في بعض الأعمال لديك، فبدت كما لو أنها خارجة من نور محض، ما وصفك لهذا الإيحاء؟
أتعمد في لوحتي وضع لمسات شديدة السطوع، بحيث تبهر الناظر وتعطيه وحياً أو شعوراً بنور محض تخرجه معاني الآيات من عمق اللوحة.
«تجلى قول الفنان "نصري" واضحاً في آيات سورة الرحمن المكتوبة بأكملها في لوحته الجداريه حيث تبدو لنا الآيات مفردات محاطة بنورانية جليلة، خارجة من بعيد غامض أقاصي السموات، أوحت به فسح اللون المشتق والمتجزئ إلى ألوان متعددة».
قراءات تحليلية لأعمال "نصري"
تحليلاً للنهج الذي اتبعه الفنان في عمله التشكيلي، قال الدكتور والناقد "عفيف بهنسي":«تعودنا من الفنان "سعيد نصري" تقديم الجديد في أعماله التي حملت أسلوبه التشكيلي الممتع بما يحويه من خصوصية في استغلال الكلمة العربية وفن الخط، الذي جعله في نتاجه الفني الأخير مؤلفات لونية متناغمة، تبقى بحضورها في الذاكرة، علامة مميزة لأسلوبه الذي طالما كان موضع إعجاب وتقدير الكثيرين».
وأضاف: استطاع "نصري" أن يركب موجة الحداثة، متمسكاً بجمالية الخط والحروف، برصفها الفن التشكيلي العربي الإسلامي، الذي تماهى مع المعاني المقدسة، فكان محصلة إبداعه الفكري المرتكن إلى أصالة الفن التشكيلي المعاصر، إنه يضعنا أمام أسرار الجمال في الخط والمفردة العربية، ومنها ندرك مقدرته على تمثل التجديد ضمن مناخ الفن الحديث ومدارسه، فهو من الرعيل الأول في الوسط التشكيلي السوري، مبدع في أسلوبه وطرحه لما يراه مضموناً فكرياً عميقاً في لوحته.
وقال الفنان "محمود شاهين" أستاذ في كلية الفنون الجميلة "بدمشق": «أدرك الفنان "سعيد نصري" بخبرته الجرافيكية الطويلة والعميقة كافة الخواص المتفردة، التي يتمتع بها الخط العربي، فعمل على استنهاضها بعمل فني تشكيلي يجمع فيه بين كلاسيكية تراثية وحداثة بصرية أتت ناتجاً طبيعيّاً لمعرفته، وتواصل تجاربه في أكثر من لون تشكيلي وتطبيقي»
أما الفنان التشكيلي السوري " جمال العباس" فقال:« يمتلك الفنان "سعيد نصري" باع طويل في تكوين الحروفية ومحاكاتها، واستطاع عبر تعايشه الطويل مع اللون والشكل المتمثل بالآيات الدينية المقدسة أن يجد صياغة حديثة ارتبطت باسمه دون غيره، فهو لا يلجأ في أعماله إلى إيجاد تكوين خاص يتكيف من خلاله بالحرف كيفما يشاء، وإنما ترك جمله الدينية في نهجها التصويري الحديث لتعبر عن نفسها».
وأضاف: خلال غربة الفنان "نصري" في العالم العربي والغربي استطاع أن يؤلف عملاً فنيّاً فيه موائمة بين إيقاع الحرف المقروء والمساحة التجريدية، التي تعتمد في مؤثراتها البصرية على الحس اللحني الموسيقي، محاولاً أن يجد معايشة بين الخط العربي والحداثة التي طغت الآن على توجهات الفن التشكيلي.