"سنية صالح".. شاعرة تتكلم في الحلم
كمال شاهين
تكاد تكون "سنية صالح" الشاعرة السورية مفردةً في نصها الشعري، إذ لم يكن لها أتباعٌ ولا مريدين لاحقين، فمن الصعب حقيقة على كل مريدٍ لها أن يحقق ما حققته هي من صدق ذاتي مع روحها ونصها، وحتى لو كان مريدها هذا صادقاً هو الآخر حد الفجيعة مع روحه ونصه أيضاً، فلن يستطيع الوقوع في شرك القصيدة بالطريقة التي أوقعتنا بها، هذا الاستعصاء الذي لا يلغي أحداً، يعني وبكل بساطة وبعيداً عن لغة النقد الشعري أنها استطاعت أن "تقتسم الكون، ما أمام الأفق لكم/ وما وراءه لي" (أعمالها الكاملة، 248).
في 14 نيسان 1934ولدت "سنية بنت فاطمة ابنة الشيخ" لعائلة ماتَ ذكرها الوحيد بنفس الوقت، فارتبط هذا الأمر معها على الدوام حتى نهاية حياتها بغصة أبدية، تقول أختها الناقدة "خالدة سعيد" (وبالمناسبة فإن كنية "خالدة" هذه على كنية زوجها "أدونيس") عنها في معرض تقديمها لأعمالها الكاملة: "دخلت (سنية) عالم الشعر من خارج الموروثات، ومن خارج المألوف، وأيضاً من خارج التيارات الجديدة التي كانت تصارع للصمود، ويوم سئلت ما هو طموحك الشعري قالت "أحس أنني كمن يتكلم في الحلم، ماذا يؤثر في العالم الكلام في الحلم؟"، لقد كان هذا بيانها الشعري الأوضح" (أعمالها، ص14).
هذا البيان بقي على قصره العلامة الفارقة في شعر وقصة (سنية)، فلم تحد عنه طيلة مجموعاتها الشعرية الأربعة المنشورة، حتى ذاك الذي أبدعته وهي تحت وطأة المرض في "باريس" وحمل عنوان "ذكر الورد"، وفي مجموعتها القصصية الوحيدة (الغبار)، فكل كائناتها الشعرية من لحم الواقع ودمه وصديده وتشظيه بكل ما في الكلمة من معنى شعري أو نقدي، فقد كانت وفيةً لروحها الشعرية وغارقة في القصيدة حد التماهي مع لحظة الكتابة وموتها المعلن في نهاية كل نص تبدعه.
حصلت "سنية" على جائزة جريدة "النهار" للشعر عن أول قصيدة كتبتها، وهي "جسد السماء"، وقد مثلت القصيدة برأي كثير من النقاد والشعراء (آخرهم "عباس بيضون" في مقال له في جريدة السفير عام 1985) علامة مميزة في مسار الحركة الشعرية الناشئة حديثاً في أوائل الستينيات، وقد كرستها شاعرة، إلا أنها قصيدة "يتيمة الأب وليس لها نسب قوي" ـ بتعبير "بيضون" ـ الذي أضاف يقول: "كان الخيار الدراج وقتها شعرياً أحد أمرين: إما الانبعاث أو الاجتثاث، ولم تكن (سنية) معنية بهذين الأمرين، إن "أنا" سنية تقطن في المسالك الخفية تتبدد وتكثر تاركة "الظلمة تولد بارتياح" والسر ينسدل عليها، وعلى هذا الطريق لا يشع منها سوى صوت مخلوع وصدى مبتعد، يشع منها جلد هو في أحيان جسد السماء نفسها" (من المقال السابق).
في مجمل أعمال الراحلة هناك ثيمات لم تتخل عنها في بناء نصها المشبع بالبياض المفخخ وبالسواد المعلن في آن، حاملة مفردات كل منهما بتنويعات سوريالية غمرت نصها، والذي يجب أن يقرأ من رؤية تجمع بين زمنية إنتاج النص، وحياة الشاعرة المضطربة بمعنى ما، سواء كان زواجها من الشاعر "محمد الماغوط" الذي ظلمها شعرياً كما يقول هو في أحد مقالاته، أو كانت في مرضها الذي اختتمته برحيلها عن الحياة تاركة وراءها "شام، وسلافة" وهما اللتان كانتا الأقرب إليها إنسانياً كما "خالدة"، كما يتضح ذلك من إهدائها عدة قصائد لهن جميعاً، من أبرزها قصيدة "مليون امرأة هي أمك"، تقول خالدة فيها: "لقد كان الشعر مع ابنتيها الحصيلة التي تقف بها أمام الله" (أعمالها،20).
في نصوص (سنية) المنتجة على مدار ثلاثة عقود بقيت لها طقوسيتها الخاصة في إبداع النص، فاستمرت في بناء مشروعها الشعري على نفس الفكرة التي بدأت بها كتابتها من اللاشيء، لم تتجسد في هذه النصوص هواجس كبرى حملت أدلجةً معينة بقدر ما بقيت محافظةً على انتمائها اليومي والحياتي للنص المكتوب بلغة الروح والجسد وعذابات كل منهما في محاولة اليقين بمعنى الحياة والوجود، ورغم زحام الوجودية كتيار فكري غمر الثقافة العربية وقتها بتأثير "السارترية وجان جينيه" وغيرهما، إلا أن شعر "سنية" بقي خارجاًُ عن هذه التصنيفات، فكان نسيج ذاته متكئاً على راهنيته وعشقه المفرد للظل الحقيقي الذي تنتج فيه القصيدة، تقول مثلاً في نص من "ذكر الورد":
"لا تأخذيني، أيتها الريح
أبعدي أذرعك القاسية عني
ما أنا إلا ورقة صفراء هشه
سقطت البارحة عن هذه الشجرة
وها أنا أدور حولها وأدور
أستظل بها،
وأحلم بالرجوع إليه" (ص 47 من الديون، منشورات رياض الريس).
تبرز الصور السحرية في نصوص "سنية" بوصفها الجسر الجامع لكل تلك الكائنات التي حفل بها شعرها، عالم يجمع صور متناقضة الحضور في الزمان والمكان الشعريين ولكنها كلها تشكل تلك القافلة التي تعبر المتن الشعري مزودة بتلك العلاقات الناشئة بينها متوحدةً في سيلانها اللانهائي صوب المتخيل واعدةً ومتوعدة بكامل أبهة الحزن الشفيف وقهر الأنثى التاريخي الحاضر في هذه الرحلة المجيدة صوب عتبات اكتمال القصيدة.
حشود كثيرة تملأ النص حتى لتحيله إلى رقصة خصوبية تستعيد عشتاراً في تجلياتها الكونية السورية، أطفال يمرحون ويحلمون في ماء الحلم "الذي يضع العالم فوق أرجوحة تتطاير بين الخارق الخرافي والمهمش والفاجع"، ولا تسقط هذه الأرجوحة إلا لتطير ثانية مرفرفة في فضاء العالم، لا تسكنها أوهام الثوريين وقتها، فتصنع قصيدتها متوجة بالأناقة المرهفة لنص يستدعي الغضب على العالم بكل ما فيه من لا عدالة، وبكل ما فيه من نكبات شخصية وعامة.
لم تكن هناك مسافة بين نصها الشعري وحياتها، هناك اندماج بينهما يكاد يخرج منهما بثوب واحد، هو ثوب الأم الكاهنة في معبد الشعرية، هذا التماهي الذي جهل من نصها مفرداً، تنوع في مقاماته الصوفية إن جاز التعبير فأدركه في بعض المفاصل تلك اللحظة الإشراقية ولكن المعكوسة التي تؤسس للعدمية، ولعل هذه الكآبوية التي تطبع كل مجموعاتها، بقدر ما تعبر عن لوثتها الصادقة بالحب والحياة، بقدر ما عبرت عن خيبتها المقابلة من "حظها" في هذه الدنيا التي "تقذف منصة الأحلام بنار الجحيم"، ومع كل هذه العدمية التي تركت بوابتها مفتوحة في آخر نص لها لم تتمه (ضمن ذكر الورد آخر مجموعة شعرية منشورة لها)، فإنها لم تنس للحظة أن هناك ما وهبتها إياه الطبيعة "فلن أرتوي حتى تعود إلى طفولتي، أريد الحياة مرتين".
تساءلت الشاعرة ذات مرة في حوار مع الراحل "ممدوح عدوان" نشرته مجلة "مواقف" في شتاء-ربيع 1971 ما إذا كان يمكن أن تصبح القصيدة رغيف العصر، وتختم ذات مرة في بعض أوراقها المبعثرة "أحلم بالمعجزات، وأنا غارقة بالعجز حتى أذني".
ملاحظة: صدرت أعمالها الكاملة عن وزارة الثقافة السورية عام 2006 بتقديم "خالدة سعيد" شقيقتها تضمنت أعمالاً غير منشورة لها في الشعر والقصة.