سوق الحميدية
ما زالت أجواء سوق "الحميدية" حافلة بضجيج المارة والأصوات المرتفعة ونداءات البائعين المتجولين كما كانت في حقبتها الماضية، فنرى البضائع على اختلاف أنواعها من "ملبوسات نسائية وأقمشة الحرير والجوخ، والمطرزات والحلي وأدوات الزينة" تتدلى هنا وهناك معلقة أمام الحوانيت، ونرى محال بيع "التحف الشرقية والمصنوعات الفنية "النحاسية والخزفية والموازييك"، ولا ننسى متاجر المرطبات والبوظة العربية "الضوندرمة ـ قيمع العرب"، والمطاعم الدمشقية التراثية الحديثة، المبنية وفق نظم الديكور الأوربي، فمما يتألف هذا السوق؟ وفي أي حقبة تم بناءه؟ وما هي المحن التي اعترضته؟
"eSyria" حملت هذه التساؤلات، وزارت المكتبة الظاهرية "بدمشق" لتبحث بين الأوراق القديمة والتي أخبرتنا أن سوق "الحميدية" بني بديلاً عن سوق "الأروام" فوق الخندق الجنوبي لقلعة "دمشق" من الغرب إلى الشرق، بين باب "النصر" وباب "البريد"، ويبلغ طوله 600 متراً وعرضه 15 متراً، وارتفاعه بحدود طابقين..هذا ما أوضحه بحث الدكتور الراحل "قتيبة الشهابي" حول سوق "الحميدية" والحوادث التي مرت عليه.
وكما ذكر "الشهابي": «أن السوق بني على مرحلتين: الأولى تم تشييد قسمه الغربي، الممتد بين باب "النصر" وسوق "العصرونية" أيام السلطان التركي "عبد الحميد الأول"، سنة1780م، وسمي سوق "الحميدية". وأما في المرحلة الثانية والتي جرت أحداثها في عهد السلطان "عبد الحميد الثاني" سنة 1884م، فقد تم بناء قسمه الشرقي، الممتد بين سوق "العصرونية" عند مدخله الغربي حتى مشارف باب "البريد"».
أما عن سقفه فقال:«هو سقف خشبي يماثل مدخل الجامع الأموي الغربي، وفي سنة 18950 ــ 1907م، استبدله الوالي التركي "حسين ناظم باشا" مع سقوف الأسواق الكبيرة في "دمشق" بسقف من "الحديد والتوتياء" وقاية لهم من الحرائق المفاجئة».
عقبات اعترضت السوق
أشار"الشهابي" خلال بحثه إلى المحن التي اعترضت سوق "الحميدية" في حقبته الزمنية الماضية، وقال:«أنه في عام 1911م، شبَّ وسط السوق حريق هائل، ألحق الضرر بالكثير من المحال التجارية المتلاصقة فيما بينها وكانت الخسائر جسيمة.
وفي عام 1914م، حاول السلطان التركي "جمال باشا" إيصال الشارع المسمى باسمه في تلك الحقبة والمسمى شارع "النصر" حالياً إلى باب البريد، وأدى ذلك إلى تغيير أوضاع سوق "الحميدية" خاصة عند كشف جدار قلعة "دمشق" وما حول الجامع "الأموي"، مما أسفر عن هدم بعض "المنازل الدمشقية"، لكن الهدم أوقف بسبب وقوع "الحرب العالمية الأولى" سنة 1914ـ 1918م، وبعد انسحاب الجيش العثماني من "دمشق"، قام أصحاب العقارات المهدمة بإعادة بناءها وترميم ما شوه منها أثر الهدم».
حريق أكثر ضراوة
ورد في كتاب "تاريخ المسرح السوري" للكاتب "وصفي المالح"،«أنه في عام 1920م تعرض سوق "الحميدية" إلى حريق أكثر ضراوة من السابق، بدأ من المنتصف عند محلات"سنجر لماكينات الخياطة"، وامتدّ إلى سوق "العصرونية" وخان "الجمرك"، واستمرّ ثلاثة أيام، وكاد أن يصل الجامع الأموي، وتحسّباً للخطر الذي سيحدث عمدت الدولة إلى هدم جزء من "البيوت الدمشقية" المجاورة للجامع، وذلك بنسفها "بالديناميت" حتى أوقفت امتداد النار».
وفي نهاية البحث، أوضح لنا الدكتور "الشهابي" أسماء الأسواق المتفرعة عن سوق "الحميدية"، وذكرها بتتابع من الغرب إلى الشرق قائلاً:«في الجانب الجنوبي من السوق نجد سوق "الأورام" ومداخل شوارع "الحريقة" وزقاق "المارستان السليمانية ـ جادة سوق الحرير"، وفي الجانب الشمالي نجد سوق "نصري وسوق العصرونية و سوق البورص وسوق مردم بيك وسوق الجرابات وسوق باب البريد"، وعند نهايته الشرقية قرابة الجانب الأيمن يمتد سوق "المسكية" بين أعمدة "معبد جوبيتير" المتواجدة منذ العهدين "الآرامي والروماني".
الرغبة في القدوم والمشاهدة
تتجول الناس في سوق "الحميدية" بكثرة يتبضعون ويتأملون ويثقفون أعينهم برؤية التراثيات والقطع الفنية، والمهن الشرقية المتوارثة.
لمعايشة تلك الأجواء"e Syria"زارت السوق في 31/7/2008، وكانت الانطباعات التالية:
«آتي إلى هنا مع ابنتي في نهاية الأسبوع، أرى الجديد، وأتسوق ما أراه مناسباً لي ولبيتي»..هذا ما قالته السيدة "فادية الهادي". وأضافت: «في سوق "الحميدية" تجد كل ما تطلبه من العطور الطيبة، والشرقيات والوجبات اللذيذة في مطعم "بكداش والزين" مثل "زبادي المهلبية بالقشدة والبوظة المثلجة بالفستق"، أيضاً رؤية الناس على اختلاف أجناسهم تزيدك رغبة في القدوم، تشاهدهم وتتعرف إليهم عن قرب».
أما السيد "عصام محسن" فقال حول زيارته للسوق:«تغريني هنا المعالم الأثرية مثل"الأعمدة الحجرية ذات التيجان المنقوشة والمزخرفة، التي تفصل بين المحال التجارية، وتنتهي عند سوق"المسكية"، إلى جانب الخانات الدمشقية القديمة والمساجد الصغيرة، والمهن المتوارثة كمهنة تركيب العطور وغيرها».
وأضاف:«عندما أقدم إلى هنا وأرى الناس الوافدين من"إيران والمغرب و تونس" ودول أخرى يحتفون بتلك المعالم، يعود بي الزمن إلى حقبة "الأتراك" في "دمشق" والتاريخ الذي أمر فيه ببناء السوق والأوابد، فأعيش بشعوري هذا أجواءً مختلة عما اعتدت عليه ومغمورة بالحميمية والتآخي والمعرفة».
أهمية سياحية واقتصادية
وقال السيد "أحمد عزام" من تجّار السوق:«ما يميز سوق "الحميدية" عن غيره موقعه في قلب المدينة القديمة، وفي نهايته حرم "الجامع الأموي"، وتتفرع منه عدة أسواق منها "المناخلية والعصرونية والحدادين" من الجهة اليسرى، ومن اليمنى "الحريقة ومتحت باشا والبزورية"، وفي الصيف تزينه باعة "عرق السوس والتمر الهندي" بنداءاتهم الشعبية وزيَّهم التراثي ومشروباتهم الباردة».
وأضاف: أجريت في السوق منذ حوالي 5 سنوات أعمال ترميم كشفت خلالها جماليات الأعمدة الأثرية الموزعة بانتظام حتى نهايته، وقد اختفت معالم الأعمدة نتيجة لضيق الممر بسبب التوسع والكثرة في المحال التجارية، وأعاد هذا الترميم للسوق قيمته التاريخية، وزاد في أهميته السياحية والاقتصادية