"شفيق نوفل":الأعمال التي تستحق الخلود هي التي تحمل رسالة إنسانية
النحت في رؤية مبدع
"علاء الجمّال":
"شفيق نوفل" نحات سوري، ولد في بلدة "عمرة" إحدى القرى المجاورة لمدينة "شهبا" التي اختارها مصيراً له وللنحت الذي رأى فيه متعة الاكتشاف وقدمه كفن عريق يروي به حوارياته مع الحياة، ويفصح عبره عن مكنون إنسان عالم أحب الديمومة والخلود، ورغب أن يكون في نحته عَلمَاً ومُحدِّثاً.
eSyriaزارت "شهبا" في 10/10/2008والتقت النحات "شفيق نوفل" في مرسمه الذي اعتبره معبداً لسمو الفكر والصفاء، وأجرت معه الحوار التالي:
ــ ما البيئة التي أثرت بأعمالك النحتية؟
-الفنان ابن بيئته يتأثر ويؤثر بها وذلك الأثر يظهر جلياً في أعماله وأنا متأثر ببيئتي الجبلية المرتفعة البركانية المكسوة بشجر "السنديان"، واتضحت جلية بأعمالي في النحت.
ــ ماذا عن أبعاد العمل النحتي برأيك؟
-لأي عمل نحتي أبعاد مادية وحسيّة إبداعية تضفي عليه الأهمية والتميز، أبعاد مادية تتعلق بالخامة والمذهب الذي شغلت به المنحوتة والتاريخ الذي انحدرت منه. أما الأبعاد الحسيّة فمتمركزة بالذوق الجمالي أثناء العمل بها و التوحد الروحي معها، والتعامل مع تفاصيلها الجزئية والدقيقة بصدق والشعور بالمنحوتة ككل كما لو أنها جسد حي تخلق رؤيته ومن المرة الأولى محاورة بصرية وحسيّة مع المتأمل.
ــ أصبحت أعمالك خالدة، والمؤكد أنها تعود في أصلها إلى تاريخ "شهبا" كمنطلق، ماذا تقول حول مرجعيتها؟ وهل كل عمل فني يستحق الخلود؟
-الفنان التشكيلي يبدأ من حيث هو إلى حيث هم إلى حيث يريد.. تأثرت بحاضرة "شهبا"، ببيئتها وآثارها الخالدة الشاهدة توالدت عندي فنا ً وأدبا ً، ومن خلال نوافذها نظرت إلى العالم، والأعمال التي تستحق الخلود هي التي تحمل رسالة إنسانية مفتوحة برؤية إبداعية متجددة تبدأ من الذاكرة وتمضي إلى الحياة والآخرين بلغة جمالية راقية وباقية. "شهبا" امتدت بي إلى جماليات "عشتار" والأمومة البابلية، وفلسفة الوجود.
ــ يقول بعض النحاتين: «أن خامة "البازلت" رغم صلابتها لها تأثير مباشر في النفس، وسطوتها سريعة على البصر»، كيف تقرأ ذلك؟
-"البازلت" حجر النار ابن البراكين كما أسميته، خامة لها خصوصيتها من حيث الصلابة والتأثير المباشر في النفس والسطوة على البصر، إنها مادة كتيمة تمنحنا شعورا ً بالقوة والرسوخ أي أنها تأتي أولا ً بالتعبير عن الملاحم والثورات.
ــ المذهب الإبداعي في التشكيل، ما وصفك لأهميته في عملية الخلق والاقتباس والتكوين؟
-تنحسر أهمية المذهب الإبداعي في استنهاض الأفكار التراكمية من الذاكرة، وجمعها مع الرؤية المتخيلة أو المستقدمة من حدائق الخيال البعيدة، ثم تعاد صياغتها بعد عملية تحليل ذهني أو محاكمة عقلية تخضع إليها ليستخلص منها آخراً معطىً بصري يكون فيه الخلق و الاقتباس و التكوين، وهذا ينعكس جلياً في العمل التشكيلي الزيتي أو النحتي أو الديكور أو الحفر الغرافيك، والذي يزيد في حسن الشكل الفني الناتج إفادة الفنان من تجارب المبدعين وعمق اطلاعه المعرفي وتكوينه لرؤيته وفلسفته وبحثه المستمر في التقنية والشكل.. بهذا فقط قد يبدع ما لم يصل إليه الفكر بعد، ويكون علماً من الأعلام.
الحوار البصري يصل الآخر بلغة الشكل والتعبير
ــ تعتبر الطبيعة مصدرا ً إيحائيا ً في أعمالك، ما وصفك لها وكيف تخصها بفن النحت؟
-الطبيعة ملهم الفنان ومعلمه من حيث جماليات التكوين وتناغم الألوان ووحدانية الضوء، مثلاً الكتلة تحتاج إلى ثبات وتوازن وتناسب، أيضا ًإلى هواء وضوء وانسجام مع عناصر بيئتها، واجتماع تلك العناصر يكونها بين يدي عملاً نحتياً.
ــ أعمالك في النحت تتناغم موسيقياً مع الطبيعة، كيف كونت هذا التمازج؟
النحت هو عزف منفرد مستخلص من جماليات الطبيعة التي تصل بالمبدع إلى ذروة الجمال، والنحات يبدع سيمفونيته كتلة نحتية تحمل معان صوفية وأحاسيس صادقة تنقل لنا مدى تأثره وتأثيره فيما يرى ويسمع.
ــ ماذا عن الحوار البصري الذي دار بينك وبينبعض المنحوتات التي أنجزتها ؟
- الحوار البصري مع العمل النحتي يبدأ منذ اختيار الفنان لخامة النحت وتشكيلها إلى أن تحادثه ويحادثها، حتى يسمع الآخر ذلك الحوار بلغة الشكل والتعبير. لقد حاورني بصرياً تمثال قائد الثورة السورية الكبرى "سلطان باشا الأطرش" وحولت المحاورة إلى شعر صوفي بات في مرسمي وعالمي توقيعاً يؤرخ تلك اللحظات.
ــ لماذا نلاحظ غياب التصوير الواقعي في أعمالك؟
- المبدع يتناول اللغة التعبيرية التي يراها مناسبة وتلبي شغفه فيما يريد أن يعبر عنه، وأنا لا أرى حاجة إلى الواقعية المباشرة لأنها سطوع آني فقط، أنا أريد لأعمالي الديمومة وفق لغتي الرمزية في التعبير بعيداً عن الواقعية والمباشرة.
ــ الفنان الحقيقي يتحلى بسمات جليلة ويؤثر عميقاً بمن يحتذي به، ماذا عن تأثرك بهذه السمات؟
- تأثرت بالنحات الذي كان يبدع بالتعبير عن موقفه، ولا يقف في مصير هدفه عائق أو صعاب، والمدافع عن طريقته في الحياة وأسلوبه في العمل بحزم وإدراك ووعي لا من أجل إرضاء أحد بل من أجل نفسه.. هذا الفنان تجده في كل العصور ومن كل الجنسيات بغض النظر عن اسمه أو شهرته.
الفنان أكثر تفاعلاً مع قضايا المجتمع
ــ الوصول إلى العالمية في الفن التشكيلي، ماذا يتطلب برأيك؟ وهل هناك معوقات؟
- الوصول إلى العالمية في متناول الجميع والمسألة متعلقة بالمواظبة على العمل الفني والبحث بدأب واجتهاد في تطوير المهارة والتقنية والبراعة في الخلق والإنجاز، والإفادة بحكمة من الفرص المتاحة، وإن اعترضت عوائق فهي محلية لا أكثر ومن السهل تجاوزها والخروج عنها، وأي عمل إبداعي في النهاية لا يحظى بالرعاية والبحث إذا لم تأت فيه شهادة العالمية من بعيد.
ــما أسباب تغيبك عن المشاركة في ملتقى النحت العالمي الذي يقام للمرة الأولى في السويداء ؟
-كما لم أدعى لحضور تدشين تمثالي قائد الثورة السورية الكبرى في "السويداء" فقد أعفيت هذه المرة من الاعتذار.
ــ أنت متفاعل مع قضايا مجتمعك، كيف يمكن للنحت برأيك أن يحمل تلك القضايا؟
- الفنان أكثر تفاعلاً مع قضايا المجتمع لأنه يتفاعل معها بأحاسيس عميقة ورقيقة وشفافة، فيعبر عنها بخصوصية الرؤية والتجربة المتعلقة بمعاناة وتطلعات أفراده بشكل مباشر أو غير مباشر وأريد أن أقول: أنه ليس هناك فن حياد، ولا فنان متفرج بل الحياة عبر فهمه ذات معنى ولها أبعاد وفلسفة ومفاهيم يفرغها فناً رفيعاً في عمله التشكيلي، والنحت كذلك شحن الخامة المهملة بالحياة ومنحها تلك الخصوصية.
ــ أقمت مجموعة من المعارض في أي منها وجدت نفسك؟
- أقمت عدّة معارض فردية ولي معرض دائم في بيتي، وكان له الفضل الأكبر في معرفتي لنفسي كفنان وذلك من خلال احتكاكي مع الزائرين والنقاشات، التي كانت تدور بيننا على اختلاف مستوياتهم الثقافية واختصاصاتهم الفنية، وكل منهم نظرإلى أعماليوكون رؤيته حولها، وهي عنده تختلف عنها عند الآخر. أما الأسئلة التي طرحتها الصحافة علي فبعضها لا زال يسألني عن اسمي ومواليدي، وبعضها يحرضني على أن أدخل العمق وأبحث فيه عن إجابة بعمل وكلمة، وأعود إلى وجودي بالسؤال، من أنا؟ وهل وجدت نفسي؟ وأين؟ في تأملي ووحدتي؟ أم في عملي وتجربتي أم عند الآخرين؟.
هواجس إنسان حزين
حول أعمال النحات، قال الفنان التشكيلي السوري "فايز الخطيب": «تأخذنا منحوتات الفنان "شفيق نوفل" إلى عوالم التاريخ والأسطورة المخلدة بين مفردات التراث، تحمل إلينا حسّاً رهيفاً رسم في تعبيرية الأعمال بهواجس إنسان حزين حالم مؤمن بقدرات النفس واكتشاف الموهبة والإبداع، حريص على عمله، فتارة تجده يستوحي الحلم فيصوغه بخامة "البازلت" هياكل نحتية مفرغة في بعض أجزائها، مغرقة بالرموز والالتفافات المشغولة ببراعة متناهية، تجبرنا الوقوف أمامها باحترام، نتأملها ونسأل عن البعد في شكلها وتحليل التصور الذي بنيت عليه، وتارة أخرى يقتبس التاريخ ليخرجه منحوتة تسمو إلى الحياة والخلود، وتوحي للناظر إليها بأفاق بعيدة تمتد بخياله إلى ما يجهل».
وأضاف: «"نوفل" طيع خامة "البازلت" الصعبة القاسية بأدواته البسيطة ليجعلها فناً نحتياً رفيع الأداء، جميلاً في ملامسه التعبيرية وتحويراته اللينة، التي حملت في عمقها مفهومه حول الإنسان والحياة والصراع والتدامي، فيترك أمامنا لغزاً محيراً بل رسالة بصرية كتب فيها حلولاً لمآسي هذا الواقع، وأخفى بين جملها قلقاً داخلياً يخترق سرائرنا دون أن نشعر بذلك، باحثاً عن منافذ أخرى تجرده من الخوف والأعباء المثقلة».