شفيق نوفل: مرسمي معبد أمارس فيه طقوسي الإنسانية
علاء الجمّال
«في ليلة من ليالي تشرين القاسية من أين حملتني الريح لا أدري، وضعتني في مهد من البازلت يحيطني من كل الجهات، حملني وحماني، وعلمني بصلابته التي ولدت من ثورة البركان معاني الصبر والوفاء»..هذا ما بدأه النحات السوري"شفيق نوفل"في حديثه حول النشأة الأولى وتأثيرها في عمله النحتي، وأضاف: «كتبت ذات مرة: إذا لم تخرق يدي جداراً من البازلت سأبترها لأنها ستكون مشلولة، وأنا لا أحمل جزءً ميتاً في جسدي، منذ طفولتي أشعر أنني أكبر من حاضري، أركن دائماً إلى مكان هادئ ومشرق أجلس طويلاً أتأمل كل ما أراه، أشكال الحجارة التي باتت في الطبيعة على هيئة مخلوقات خرافية غريبة الصور، أتأمل منزلاً قديماً بناه إنسان منذ آلاف السنين، وترك إتقانه على الحجر تساؤلات وتصورات وأجوبة، كيف كان؟ ما هي حياته؟ وأين انتهت؟ أتأمل الطبيعة وأحيائها والنجوم وسقوط الشهب والكتل الصخرية المرتفعة والمنخفضة، فالنحت وهج أضاء فطرتي بالهيام وقداسة الفراغ والوحدة والخشوع، تلك الصور أفاضت في ذاكرتي عوالم الإبداع والهيام الإلهي في تكوين النحت».
أثر لا يمحى من الذاكرة
وعن الماضي الذي ولدت فيه أسفاره بين معابر الخيال والمثل العليا، قال: «نشأت في قرية"عمرة ـ السويداء"وسط أسرة ريفيّة شأنها كبقية الأسر في ذلك الريف تعلمت مع أبنائها الصدق في القول والعمل وحب المثل العليا: الإنسان والأرض والوطن، وهي مكان هادئ محولٌ على أنفاس الطبيعة الجميلة التي شكلت مهد الحياة لموهبتي التشكيلية وتجلياتها الآن في النحت، إنها أثر لن يمحى من ذاكرتي ما حييت».
وأضاف: « بعد السنون التي مررت بها في كنف الحياة والصراع، انتقلت وأسرتي إلى"شهبا" وتابعت حياتي في رحابها، بادئاً العمل بمحاولة الوصول إلى إبداع فني نحتي لم تطأه يد فنان بعد، وساعدني في ذلك ابنتي الوحيدة "شام" بمحبتها للرسم ومتابعتها لي أثناء العمل، من هنا تحددت خصوصيتي في التشكيل النحتي، وبات لي مرسمي بل معبدي الذي أمارس فيه طقوسي الإنسانية».
وفيما يتعلق بخصوصية النحت، قال: «النحت وسيلة من وسائل التعبير عن تراكمات الفكر ، وهو شحن المادة الصلبة بالحياة من خلال اللمس والصدق، لا يحتاج عنف أو تكسير بل ثقافة ومرونة».
اكتشاف التجليات البصرية عبر النور
وأما الأعمال الفنية الخالدة فكان"لنوفل"رأي مستشف من الفلسفة والحكمة، قال فيه: «الأعمال الخالدة ينبوع لا يجف، يولد ببطء ويستمر إلى الأبد، والنور لا يولد إلا من نقيض "الجسد والروح، والموت والحياة، والحرارة والبرودة، والخير والشر، والمحدودية والمدى"هكذا المنحوتة بقيمها وأبعادها ورسالتها إلى الآخرين نور ولد من نقيض ويبقى خالداً، والإنسان إذا أراد أن يجد ذاته عبر ذلك النور ويكشف تجلياته وروحانيته بصرياً عليه أن يدخل في عزلة طويلة متوحداً مع الطبيعة وجمالها المحض».
لكل مبدع ذكرى تبقى راسخة في عوالم الرؤية الاستعادية للماضي، فماذا عن الذكرى التي حملها "نوفل" بين عوالمه؟ حول ذلك قال: «منذ حوالي 16 عاماً زارتني سائحة فرنسية في مرسمي، أعجبت بأعمالي فأهديتها إحداها، وبعد عام عادت إلي وذكرتني بنفسها وشكرتني على ما قدمته لها بمنحي صندوق خشبي صغير فيه حجر بحري عشوائي الشكل رسم عليه باللون الزيتي الأحمر شكل انطباعي للإنسان، وقالت لي: أن الرسم الموجود على الحجر البحري للفنان الإسباني"بابلو بيكاسو"، ثم غادرت وما زال الحجر في أرشيفي ذكرى خالدة تذهب عني بعض الأسى في وقتي الراهن».
وضع النحات عدّة دراسات نموذجية لبعض المشاريع الفنية الهامة على صعيد النحت والاستقطاب السياحي في"شهبا"، لكنها حتى الآن لم تؤخذ بعين الاعتبار أهمها إقامة ملتقى نحت في منطقة تدعى"طفحة" واقعة على الطرف الشمالي من المدينة، تحيطها أودية جانبية، وفي وسطها مقلع قديم للحجر"البازلت"على أن يقام الملتقى على الصخور الأزلية الثابتة المطلة على الوادي، والأعمال النحتية جميعها تبقى موجودة في مكانها، وهذا سيكون موضع قدم لوفد السياحية، ومظهر جمالي يعود على السكان بالخير العميم، وقال هنا: «إذا كان لبيتك نافذة، أنظر؟ الكون عتمة، أيها الفنان لمن تبدع؟ الإنسان قرظته العتمة، والموت يمتدّ إلى"الله"».
أعمال نحتية قادرة على النطق
حول النحات السوري، قال الأديب السوري الراحل"فوزي معروف": «"شفيق نوفل" نحاتٌ مجدٌ على نفسه متسمٌ بالحزن والصمت والصوفية، لا يثنيه عن عمله حرارة صيف ولا برودة شتاء، إنه واحدٌ من القلة التي تتعامل مع حجر"البازلت" بهذه الروحانية والدقة في التعبير، أعماله النحتية تتفاوت أحجامها بين الصغر والكبر، لكنها تحمل رسالة واضحة: "الشقاء يلد المبدع حتى يكون منارة للآخرين"».
وقالت السيدة"أمال سلوم"عقيلته ومتذوقة لأعماله: «"شفيق" مثل أعلى للإنسان المجد الصابر والطامح نحو المستحيل، الفن بالنسبة إليه ليس مجرد نحت أو رسم وإنما إحساس عميق منغمس بالتسامح والوفاء، يتعايش مع أعماله بدفء ويعتبرهم جزءٌ من جسده، إنها ليست كتلاً صامتة فحسب بل قادرة على النطق ومخاطبة مكنونا الداخلي».