"عادل خضر": "الحجر والمعدن" خامات نبيلة للعمل الفني

علاء الجمّال

"عادل خضر" نحات سوري، عرف عنه الإلمام بأنواع الخامات المتوفرة، والعمل على تشكيلها وفق نماذج تعبيرية وتكوينية مبسطة، ويعد في الوسط الفني طاقة إبداعية محدثة في الأسلوب النحتي المعاصر.

انطلق النحات "خظر" من مرسم ضيق تحولت جدرانه إلى عازف ناي ومؤرخ يوثق قصة إنجازه، حتى أدواته المخصصة للعمل عمل على تصنيعها بنفسه وقولبها في تكوينات نحتية جميلة الشكل والخطوط..

  ecalendarزار النحات السوري بمرسمه  وأجرى معه الحوار التالي مستوضحاً منه خصوصيته في التجريب ورؤية لواقع النحت الحديث.     

ــ أوجز لنا في بداية مراحل اكتشافك لخامات العمل النحتي؟

لي تجربة طويلة مع كافة الخامات المتوفرة، "صلصال، جبس، خشب، معدن، الحجر الرخامي"، بعضها غير قادر على بلورة الرؤية المتخيلة للموضوع، الطين مثلاً أكثر مادة مطواعة للتشكيل الفني، فعبره نحدث تفاصيل تشريحية دقيقة في المجسم، ويمكن أن نجعلها كبيرة الحجم، إلا أنه مادة أساسية تستطيع بها تشكيل معظم التكوينات التي ترغبها، وإذا قارناها "بالحجر الرخامي" نجده لا يقبل تلك التفاصيل.. لأن المناطق الممتدة  أثناء نحته كاليد معرضة للكسر، بينما "الطين" يحتمل هذه الصلابة لأنه مستند في داخله على هيكل معدني متين،  فهو مادة للتشكيل ويكون مهيأً للنحت في الفخار فقط، ويتحول عبر القالب لأي مادة تختارها مثل "البرونز، و الألمنيوم، والنحاس"، وكل خامة لها قدرة تعبيرية وشخصية تتسم بها، ويبقى الخشب كخامة حيّة الأقرب إلى نفس الإنسان، لذلك المشاهد يتعاطف معه بشكل أسرع، ويكون العمل النحت به قريباً لوجدانه أكثر.  

 

ــ كيف وجدت العمل على المعدن من حيث التشكيل؟

يملك "المعدن" خاصية المباشرة في التشكيل، ونرى ذلك في أعمالي التعبيرية الصغيرة والنصبية الضخمة الموضوعة في الساحات والحدائق العامة، وكونه يسمى مع "الحجر الرخامي"، بالخامات النبيلة، نجد أنه من آلاف السنين استطعنا أن نكشف عن تاريخ الحضارات القديمة.. من خلال العمارة الخالدة من مسارح وقصور وأعمدة منحوتة التيجان.. مثل: مدرج "بصرى الشام "، وحمامات "شهبا"، و"تدمر"، وحضارات أخرى، مثل: أثار "الفراعنة" والعهد "الروماني"، وفي تاريخهم عملوا على  خامة "البرونز"، ولا زالت بقايا آثارهم محفوظة حتى الآن بكامل تفاصيلها ونقوشها..

ــ ماذا عن المشروع الآني الذي تقوم بإنجازه؟

أعمل الآن على منحى فكري حديث، وهو التشكيل المباشر على معدن "الحديد"، أي أنني أختار  قطعاً معدنية جاهزة وأقوم بتطويعها وتحويرها عن طريق اللحام والصهر، مبتعداً عمّا كان سائداً  وهو أن يأتي الفنان بالقطع الجاهزة ويركبها مع بعضها البعض لخلق الشكل الفني دون اللجوء إلى التطويع والطي، بينما أنا أخضع القطعة إلى التكوين والتشكيل الذي أرغب، محافظاً على خصوصية الكتلة النحتية، والتشكيل الإنساني في جوهرها، والأهم أن عملية التركيب النحتي لدي متكاملة وتحتوي على موضوع وكتلة وفراغ، واشتهرت هذه الطريقة "بأوروبا" منذ بدايات القرن الماضي، ومن أشهر الفنانين العالميين "غالدار"، كذلك "البولينيين" اشتهروا بها، وخاصة الحديد المتحرك الميكانيكي، أو المنحوتة المتحركة ميكانيكيا.ً     

 

 

الفلسفة جزء من مكنيات الفنان

ــ أنت مبدع بفن "الميدالية"، حبذا لو نعرف وجيزاً عن تاريخها والنقوش النحتية عليها؟  

اشتق فن "الميدالية" من صك النقود، حيث كانت هذه المصكوكات تحمل نقوشاً مختلفة.. عبارات حروفية أو وجوه لملوك وسلاطين أو شخصيات رسمية.. ومع مرور الزمن باتت تخصصاً مستقلاً عن وظيفتها التي صممت لأجلها، ففن "الميدالية" عبارة عن تشكيل مجسم نحتي صغير نافر، يراعى فيه تقنية الرسم والتشريح من جانب المنظور والكتلة، وهذا الأسلوب قديم جداً يسمى "الريليف"، عمل به كفن جداري عند "الفراعنة والسومريين والبابليين والفينيقيين"، ومعظم الحضارات القديمة "البوذيين الهنود"، فقد صورت تلك الحضارات أساطيرها وملاحمها على الجدران والأعمدة.. وأشهر الريلييفات التي عرفت عامود "تراجان" في "روما"، وعليه جسدت الملحمة، وهو من إبداع نحات سوري.     

ــ صف مكنيات حسك التعبيري أثناء تشكيلك لمعالم القطعة النحتية؟

عندما أنجز عمل فني ما على أي خامة متوفرة لدي، أخضع مشاعري إلى عملية مزيج بين العقل والعاطفة، فتأتي متعة الخلق والإنجاز متممة للتنفيذ، وهذا أحد أسرار تعلق الفنان بفنه التشكيلي، والمحافظة على نتاجه الفني، كونه يخوض متعة حقيقية من متع الحياة..  

أريد مثلاً أن أعبر عن حالة ألم، الإحساس ينعكس مزيجاً مباشراً عبر المكنون الداخلي، ويخرج كتعبير إما عاطفي أو عقلاني عند التـأثير على المادة بالنحت، وحالة الفرح تظهر بنفس الشعورية، فكل فنان صادق يحمل في عمق مكنياته مسائل كثيرة مركبة ومعقدة، لكنه أحيناً يفاجئ بها عند تبلورها على واقع العمل، ولا يدرك كيف خرجت، ويبدأ في ذاكرته التساؤل  وفلسفة نموذجية حول إبداعه تجول، وفيما بعد تصبح محوراً للقول والحديث.

ــ أين تجد المتعة بعد انتهاء القطعة أو أثناء العمل بها؟

المتعة الجسدية في النحت تكمن في مسألة القوة والشدة، التي تطبق على الخامات من قبل اليد كحالة صراع إيجابية أو مبدعة حتى تتضح خطوطها التعبيرية في العمل، يقول "ميكلاأنجلو" «إني أرى المنحوتة داخل الكتلة، وعلى الفنان أن يخرج هذه المنحوتة»، فما هو إذاً قدر صلابة هذه المادة، التي تحتاج إلى أقصى قوة جسدية ممكنة لإظهار خطوطها؟  إنها حالة صراع نفسي تتضمن القلق للصورة التي ستئول إليها بعد وضع لمساتها الأخيرة.. هذا الفرق بينها وبين اللوحة الزيتية، التي تقبل إضافات ومحي وإزاحة وعودة الرسم عليها عدة مرات، بينما المادة الصلبة لا تحتمل إضافات.. إزالة أو حذف.

 

 

المنجز الإبداعي عمل فن يصادق

ــ ما المشاهدات، التي استأهلت منك الهيام والبحث، وشغف التكوين؟

الفنان يملك بصر شديد القدرة على التقاط المشهد المرئي في الواقع، و"بصيرة" قادرة على الدخول عميقاً في مكوناته وأبعاده.. وتبقى الصعوبة في إخراج الرؤية المختزنة وتحويلها إلى عمل فني، ونعلم أن الحياة مليئة بتشكيلات وتكوينات مرئية مذهلة من "غيوم وحجر وسهل وشجر ونهر".. وأن الفنان الباحث فقط يستطيع إعادة تركيب وصياغة ما رآه بشكل جديد، لا يشبه المشهد الطبيعي الذي اختار موضوعه منه، ويمكننا القول هنا: «أن المنجز الإبداعي الذي خرج من بين يديه عمل فني صادق.

ــ يلاحظ اهتمامك "بالبورتريه" أيضاً؟

"البورتريه" ياستهويني كأسلوب واقعي تسجيلي، له منظور متوازن حول أبعاد الكتلة.. وكل وجه نحتي أنجزه من شخصيات المجتمع، له حالة خاصة في داخلي، ربما أعجبتني ملامحه الصارمة أو الطبية، أو بروز الأنف، أو الجبين الغض أو كثرة التجاعيد.. وتأثري بهذه المعالم دفعني إلى إعادة صياغتها وتحويرها ضمن توليفات جميلة أشبه للصورة الحقيقية في واقعها الحي.

 

ــ أخذت الأعمال النحتية السورية في الآونة الأخيرة تتجه نحو الشكلانية غير المقروءة، وليس بمقدور الجميع فهمها، كيف تنظر إلى هذا الجانب؟

مرّ الفن بمراحل عديدة.. في البداية كانت الرسوم على جدران الكهوف يستخدمه الإنسان البدائي كلغة للتعبير، عما يريد فعله، يقول أنا ذاهب للصيد فيرسم ببساطته حيوان وأداة الصيد على الجدار، في مرحلة متقدمة بدأ الفن ينفصل شيئاً فشيئاً عن الوظيفة، فعندما يصنع  فنان ما  خنجراً ويلجأ إلى زخرفة قبضته برسم أشكال لحيوانات مفترسة أو تعويذات أو حروف.. يبتعد عن وظيفة الخنجر، قطع الجلد أو الدفاع عن النفس.. هذا الانفصال شكل مع التطور الحياتي  حالة من التذوق الجمالي، وهي حاجة  أساسية مترافقة مع الوعي الإنساني، مثل تذوق الموسيقى أو رسومات الحرير أو طلاء الجدران..  من هنا بدأت تتشكل مجتمعات من صناع الفن الجميل، وباتوا شريحة بالمجتمع، جسدوا ميثولوجيات أسطورية وقصص دينية ونبوية مثل فن "الأيقونة" بالكنائس المسيحية والدلالات التي تشير إليها..

ومع عصر النهضة انحصر الفن إلى حد كبير ببلاط الأمراء والملوك.. كتصوير شخصياتهم وتخليدهم إلى أن تمّ اختراع "الكاميرة الفوتوغرافية" التي جعلت العمل التشكيلي في حالة تنافس مع الصورة الضوئية، فصار الفنان يبتعد تدريجياً عن اللقطة الواقعية التسجيلية، ويتجه نحو  الحس التعبيري، الذي يعتمد على إظهار الأشكال وفق رؤى أسلوبية خاصة..  فأصبح عنده اللون والشكل والتكوين والنور والظل  والعمق مفردات اللوحة، يترجم بها مكنوناته بعيداً عن اللقطة الواقعية التي تقوم بها الكاميرة، وفي الوقت الراهن  بات الفن يعتمد على المنحى الجمالي الكامن في مفردات التكوين للعمل المتخيل المختزل للواقع بطريقة شكلانية صعبة الفهم بالنسبة للمتأمل البسيط.   

 

ببلوغرافيا النحات

ولد النحات "عادل خضر" في "دمشق" عام 1959، تخرج من معهد "أدهم إسماعيل" للفنون الجميلة "بدمشق"، ليصقل فنه على مدار 7 أعوام على يد النحات المصري "محمد حسين هجرس"، وخلال 27 عاماً بحث في تشكيل مختلف الخامات "معدن، جبس، خشب، زجاج، رخام".. أنجز العديد من ماكيات نموذجية، كهياكل مصغرة لأعمال نصبيّة ضخمة، أتقن فن "الميدالية، "والبورتريه" النحتي، له أطروحات فكرية هامة على صعيد النحت، ودراسات لمشاريع نحتية تتعلق بالعمل النصبي، وتجميل الأماكن العامة، وتربية الذوق الجمالي والفني في المجتمع، له تجربة مع التصوير الزيتي، شارك في العديد من ملتقيات النحت التي أقيمت في "سورية"، منها ملتقى النحت الثاني لمؤسسة المعارض والأسواق الدولية عام 2003، أنجز عمل ضخم من الرخام التركي "بيانكو رويال"، وضع في حديقة مدينة المعارض"بدمشق"، كما أنجز عدداً من الأعمال النصبية.