"عامر ديوب".. التطعيم الفني للفنان قبل المتلقي

كمال شاهين

حين تدخل في جدل  فني و ثقافي  مع صديق فنان مبدع، طموح، يمشي بمشروعه الفني بطريقة التطعيم الفني لنقل الصورة الفنية الأفضل للفنان قبل المتلقي.

ينتمي الفنان "عامر ديوب"، خريج كلية الفنون الجميلة جامعة "دمشق" إلى آخر جيل فني تتلمذ على يد جيل الرواد الثاني في "سورية"، والفنان الذي تابع دراسته في "إيطاليا" باختصاص شرقي بحت، هو الأيقونة البيزنطية، لم يتوقف عند هذه الدراسة، فتابع قراءاته الفنية في الأيقونة السورية ومدارسها تحديداً لتصبح هذه علامة من علاماته الفنية الفارقة، بعد أن أدخلها كمكوّن فني بصري في أعماله.

بدأ الفنان مسيرته بعد أن تشبّع بما أنتجته المدارس الفنية العالمية والسورية، فهو يرسم الواقعي باحتراف، والبورتريه ينجزه في دقائق بالرصاص، في تفسير ذلك يصر الفنان  في حديثه للمفكرة الثقافية بتاريخ 3/12/2014 على أن "امتلاك الأدوات لا يعني مفارقةً لأصول الرسم الواقعية والانطباعية والسوريالية، فهي كلها مدارس لها شرطها الإبداعي الحقيقي وظرفها أيضاً، ومن لا يقدر على رسم البورتريه في لحظته المباشرة ليس فناناً، والقصة برأيه ليست مجرد توزيع لخطوط وألوان على المساحة البصرية، فهناك فكر، وهناك عينٌ تنقل ما يجول في الرأس من هواجس تنسكب عبر التقنية في اللوحة ضمن معايير وأسس، وليس بطريقة عشوائية تستخدم الفزلكة اللفظية في تبريرها وحتى في تبرير الأخطاء اللونية، يجب أن نميز بين الإبداع وبين التخبيص".

لوحات الفنان التي قدمها في مختلف معارضه، تدرّجت لتصبح حمولة تشكيلية ثقيلة مكثفة الرموز والدلالات، حتى أنك تقف أمام أي عمل من أعماله مطولاً باحثاً عن تفكيك بصري لهذه التداخلات التشكيلية المليئة حدّ التخمة بتنويع لوني يختاره الفنان بعناية وحرفية؛ ليس مهماً تسمية هذا النهج بقدر ما يهم التأكيد على مفارقته السائد، وصولاً إلى تكوينٍ تشكيلي تعرف عندما تراه أن صاحبه هو الفنان فوراً.

هذه السمة تطبع لوحات الفنان بتعبيريتها الغارقة في الصوفية والحلم والتأمل الذاتي، بالمقابل لا تمنع من الترابط الواضح بين التكوين الحسي والجمالي، يحضر الجسد الإنساني بتكويناته المذكرة والمؤنثة مفترشاً اللوحة أحياناً بكامل أبهته وحضوره الثري الدلالات، ويتداخل التكوينان في تكامل بصري، يفتتح دوماً في اللوحة التلقي بعين "الرفقة والمحبة"، والعين التي ترى اللوحة ـ عين المتلقي الباحث عن تفسير لهذه الامتدادات في عمق اللوحة كما في إطارها التعبيري ـ تبقى مرتاحة لهذه التنويعات، ووسط كل هذه التداخلات التشكيلية الدقيقة تبقى عين الفنان تراقب انسياب العمل الفني على مساحات اللوحة بدقة شديدة، فالأكاديمية التي يتميز بها الرجل تعمل عملها هنا بوضوح.

في لوحات "ديوب" فسيفساء غنية التكوين، تكاد تزدحم في المشهد البصري إلى درجة الاختناق الذي يعيق التلقي أحياناً، إلا أن هذا لا يعطي انطباعاً بالنفور بقدر ما يقرب المتلقي من اللوحة، في تفسير ذلك يقول الفنان "إن ألوان التمبرا التي يستخدمها تعطي إحساساً عميقاً بعمق الطبقات اللونية، ومن الممكن أن يصل التشكيلي بهذه الألوان لمختلفة درجات اللون الواحدة، لذا أعتمد كثيراً على هذه الألوان، وهي ألوان مائية قديمة استخدمت منذ عصر النهضة في أوروبا وقد عمل بها الكثير من الفنانين العالمين، لما تمنحه من شفافية عالية وحس صافي لسطح العمل الفني"

لا تظهر الأيقونة في لوحات الفنان ككيان مستقل له شرطه الإبداعي الخاص، بل تدخل بتفاصيلها المجزأة والتكثيفية الشديدة إلى متن الصورة التشكيلية كأحد أنساق العمل غير المنفصلة داخل الأشكال والصور والعلامات في الفضاء اللوني "الطبيعي"، وفي هذه "الطبيعية" تلامسٌ روحي دافئ في صيغ جمالية يتعانق فيها الحلم بلونياته المشبعة بمشتقات الأصفر كثيراً، علامةً على تجاور الحلم والواقع في تلك المساحة التشكيلية.

 الموضوع الفني لديه يتجاور الواقعي مع المتخيل، مفردات الحلم البشري ـ أحد أقدم طرق التعبير عنها ـ كانت على جدران الكهوف، تنتقل في لوحات "عامر ديوب" مجسّرةً تلك المسافة الفاصلة بين العين والعين الثالثة، والموضوع الأثير لديه هي تلك الانزياحات الفنية للحلم إلى الواقع في أبهى تعابيرها: المرأة.

تحضر المرأة في أعمال "ديوب" كغيره من الفنانين ليس بصفتها الوجه الآخر للذكورة، ففي كل أنثى بقية ذكورة، وفي كل رجل بقية أنوثة، هذا التعالق التاريخي الجنوسي يفرد ظلاله على "الصورة" التي تتلقاها عن المرأة، أكانت في جزء من لوحته، أو كانت كلّاً يحتل الأبعاد الأربعة لمساحة العمل الفني، ويبقى في هذا الحضور "العين" التي يقدمها الفنان بأكثر من صورة، باعتبارها نافذة الروح والحلم في آن معاً، فالعين لديه تحضر حاملة رسالتها ونوافذها كأنها البؤرة المركزية في العمل، أو كأنها اشتقاق "آشوري" محدّث للعيون الكبيرة، ولكن التي تحقق النسب الصحيحة في أبعاد اللوحة، وهذه نقطة لا يتخلى عنها الفنان في كل أعماله.

النسب الصحيحة في الجزئيات البصرية لدى "ديوب" تريح عين المتلقي، هذه النقطة التي يغفل عنها كثير من الفنانين ستجدها حاضرة عنده بدقة، فالرسم بما هو "جمال، حتى في القبح، يحمل في بنيته القواعد الدقيقة التي تقدم المشهد البصري بسلاسة، يبدو الموضوع الفني هنا ثانوياً إذا استطعنا إيجاد المعادل الدقيق لكل العناصر في اللوحة، بعيداً طبعاً عن الجفاف في الروح".

في إصراره على التطعيم الروحي للوحة، يصر الفنان على أن الفن السوري بخير، وأنه متفوق على الكثير من أنواع الفنون العالمية المماثلة: "الفن الحديث السوري أقوى من الفن الأوروبي أو العالمي بسبب عمق الأعمال الفنية المرتبطة بعمق الحضارة، أغلب أعمال الغرب تسمى في عمل التصميم لوحة "مودرين" ولكن هذه للاستعمال اليومي، وهي ليست خالدة، أما الاشتغال الفني للوحة السورية وبمختلف أجيال فنانيها فقد اشتغلتُ على ثقافة الشرق، في الوقت الذي عمل بعض الفنانين بالتجريد دون وعي، ودون ارتباط بالواقع البصري".

نذكر أخيراً أن الفنان من مواليد اللاذقية، خريج كلية الفنون الجميلة بدمشق قسم التصوير، تابع دراساته العليا في إيطاليا عام 2006، درس التصوير الجداري، والفرسك (فن ترميم الأيقونة)، كما درس في مركز الرضا التشكيلي ومعهد "إسمود" لتصميم الأزياء في دمشق، له ما يقرب من عشرين معرضاً داخل وخارج سورية كان آخرها في "بيروت" العام الحالي.