"عبد الرحمن مهنا" : الواقع المحسوس يثير أفقاً جديدة لأفكاري
الإبداع في ولادة الاكتشاف والتصوير
"e Syria" ـ "علاء الجمّال":
يعد الفنان التشكيلي السوري"عبد الرحمن مهنا" من المؤسسين في الحركة التشكيلية السورية، انطلق من "حلب" مكان مولده عام /1950/، إلى "دمشق" ليكمل مسيرة فنه، ورغم الظروف التي اعترضت مصيره، والنقد الحاد الذي هوجمت به أعماله خلال معارضه، إلا أنه حطم المألوف في الفنون الجميلة، وتجاوز أبعاده بالرسم الفطري، الذي شكل مهداً وانطلاقة للعديد من الفنانين السوريين.
يُعرف عن "مهنا" رأيه النقدي البناء، وقدرته في رصد الشكل واختراقه وتحليله بصرياً والتعبير عنه بأساليب وتقنيات متنوعة، وهو العضو في نقابة الفنون الجميلة ونادي التصوير الضوئي "بدمشق"،التحق بكلية الفنون الجميلة ـ قسم الاتصالات البصرية عام /1976/ كرّم أكثر من مرة، وله العديد من المعارض الفردية والمشاركات الشخصية في معارض مختلفة.
للدخول في تجربة الفنان السوري "e Syria" زارته في مرسمه الكائن في "دمشق القديمة" منطقة "القيمرية" إلى جوار كافيتريا "تمر حنة" في 19/8/2008، وأجرت معه الحوار التالي:
ــ ما هي أكثر الموضوعات التي تطرقت إلى رسمها، وما سر انجذابك نحوها؟
الإنسان.. أستلهم شخصيته وشكله من ردّة فعلي اتجاه الأشياء وجزئيّاتها، وما كان يثيرني نحوها، هو أنني أرى فيها تميزاً يتفق مع مخيلتي وعالمي الذاتي، وأقف دائماَ موقفاً خاصاً منها لكنه ليس محايداً.
إن للأشياء عندي أبعاداً ومضامين لها انعكاساتها على النفس وعلى الواقع، ولكي أقرأ هذا الواقع بعمق يجب أن أبحث أولاً وبشكل تلقائي وعفوي عن دلالاته في نفسي وفي المحيط الذي أعيش فيه, من هنا تتشكل لدي ردّة الفعل وتنبثق على السطح الأبيض للوحة من خلال ما تختزنه ذاكرتي من أفكار وأحلام وطموحات وجماليات أراها ولا يراها الأخرون، وقد أرى في البشاعة جمالاً يعبّر عن موقف إنساني ما أو غير ذلك.
ــ أوضح مفهوم الحالة الإبداعية لديك؟
الجماليات تعطيني الموقف الذي أريده تجاه الأشياء الحاصلة في الواقع، أراها وأجسدها في عملي فناً فطرياً خاضعاً إلى حالة إبداعية أعيشها مع الرسم، والأشياء المجسدة ليست موجودة في صورة واقعية أو فوتوجرافية سابقة، وإنما نراها تنعكس من ذاتي إلى اللوحة رؤى وعوالم فيها الكثير من المظاهر المفتعلة لهذه الأشياء في الواقع، وأسبر حقيقتها في ذهني بقدر ما أستطيع.
ــ تتسم لوحاتك بعمق يمتدُّ نحو الماضي، إلى الإنسان الأول والبداية، ما طبيعة هذا العمق؟
الإنسان في موطننا يحمل موروثه الثقافي منذ الأزل وخاصة ما يمس المشاعر والأحاسيس التي تولد معه وتستمر عبر أجيال قادمة، ومهمتي كفنان تكمن في تنمية ذلك الموروث ومقدرتي في أن أعبر عن جملة المشاعر والأحاسيس التي أعانيها فترة حياتي في زمن ما ومكان ما.
الأهم عكس الحالة الآنية إلى فن جديد
ــ اجتزت في "دمشق" مرحلة صراع حتى أثبت وجودك في الفن التشكيلي، هل لك أن توجز لنا هذه المرحلة؟
تتلخص مرحلة الصراع بسؤالين: كيف أستطيع رسم لغة تشكيلية جديدة تتجاوز ما هو مألوف في الوسط التشكيلي السوري؟ وكيف أستطيع متابعة الآخرين بأطروحاتي الناتجة في الوقت الذي يعجزون فيه عن فهمها واستيعابها. لقد عانيت من هذا الكثير ولكني مع الاستمرار استطعت وبقدر معقول أن أوصلها إليهم رغم الأمية الثقافية والفنية التي يعاني منها وسطنا التشكيلي.
ــ يقول البعض:«أن أعمالك الفنية هروب من واقعك الحياتي»؟!
أعمالي ليست هروباً من الواقع، وإنما تأكيد وتجسيد لكل حالاتي بسماتها الفرحة والحزنة أما الهروب بواسطة الفن لا يعني لي شيئاً لأني أواجه صعوبة حياتي بالفن،وهنا إثبات لوجودي ومصيري.
ــ ماذا تقول حول تنوع الأساليب الفنية التي تختارها للعمل، لاسيما وأن أكثر فنانينا يحددون لأنفسهم لغة تشكيلية واضحة لكن مختلفة الأبعاد يتواصلون في رسمها حتى الآن ويستمرون فيها نحو المستقبل؟
حالة الفنان الصادقة تقتضي منه أن يعبّر عن لحظاته الآنية بوضوح، وأن يكون تعبيره انعكاساً لتجاربه الحياتية وتصوراته الإبداعية بشكل آني وغير جامد، فأنا لا أمتص كل ما حفظته ذاكرتي من رؤى ماضية أو ما أبدعته في مرحلة ما كان لها بحدوثها أسبابها ومقتضياتها، بل أعيش واقعي وفق ما يعترضه من ظروف و تقلبات وتطورات سلبية أو إيجابية، والمهم أن أعكس حالتي الآنية إلى فن جديد ينعش ذاتي وأستخدم لأجله كل لتقنيات التي وصلت إليها. لذا يجب على الفنان أن يستمر ويتجدد وفق الحالة الإنسانية والتصورات المستقبلية لديه، وليس أن يحجر خياله الإبداعي في زمن معين وماض يستمر في نسخه، وعليه أن يواجه تشكيلاته وتصوراته الفنية المتراكمة حتى ينهض من خلال صدامها بأسلوب ومنعطف جديد ينعش ذاته ويقيم أفقاً رحبة.
"العقل" لم يبلغ مرحلة النضوج بعد
ــ متى يلامس المشروع البصري مكامن الحس والجمال في النفس برأيك؟
عندما تكون صادقاً في عملك الفني وتستطيع إيصال الصدق من نفسك إلى الجميع عندها يدخل مشروعك البصري إلى فكر وقلب الآخر ويلامس مكامن الحس والجمال فيه.
ــ ما تأثير الواقع الزمني المحسوس في تجليات الرؤية البصرية لديك؟
بقدر ما يثير الواقع المحسوس أفاقاً جديدة لأفكاري ويعطي معنىً للحياة التي أعيشها، بقدر ما يتطابق ذلك مع ما أطرحه من أشكال على سطح اللوحة، ويكون مستلهماً من عوالم أريد أن تكون مساوية لما أشعر به من هواجس تمس دقائق الأشياء في كينونتي، وتضيف إلى وجودي ولادة جديدة وثقافة أخرى.
قلت:«أن "العقل" مادي وضد التفوق في الفن التشكيلي» ما تفسير ك لذلك؟
"العقل" قاصر عن فهم المشاعر والأحاسيس، وليس لديه القدرة على فهم حقائق الأشياء، إنه مادي في التعامل معها وبعيد عن كل ما هو روحاني وإنساني..هذا ما نراه في حياتنا المعاصرة، "العقل" لم يبلغ بعد مرحلة النضوج الإنساني ولو بلغها لما لاحظنا إشكالات العصر ومآسيه التي نعيشها يومياً، ما ندركه في حواسنا لا يدركه "العقل" والفن يعتمد على الحواس والمشاعر أولاً وليس على معادلات علمية هي من أساسيات تحليل "العقل".
ــ قلت: «إن بيوت "دمشق القديمة" فتحت أمامك أفاقاً لا حدود لها من فلسفة التشكيل و التلوين»، وقلت أيضاً: «أن الإنسان محتجب عن المعرفة ما لم يعرف الأشياء على حقيقتها»؟ كيف تقرأ ذلك الآن؟
الأشياء محتجبة في المكنون، لا تكشف عن أسرارها إلا بمدى إدراكنا لها، وهذا يتم بحالة من الصوفية تحيط علاقتنا معها، وبقدر ما نعطيها تعطينا، وبحرصنا على وجودها تكشف أسرار جمالها المحتجب بين خبايا الذات, من هنا كانت "دمشق" القديمة المفتاح الذي استطعت من خلاله أن أفك الألغاز وأكشف الأسرار في حجارتها وتاريخها وأناسها، ما جعلني أصورها لا كما هي في حقيقتها وإنما وفق رؤيتي وفلسفتي، لذلك جاءت أعمالي كما وصفها الناقد الإسباني " خوان ماركو":«الواقع يشابه أعمالي الفنية وليست أعمالي هي التي تشابهه».
90% من الفنانين يعانون الأمية البصرية
ــ الفن التشكيلي رسالة نبيلة تقدم لأجل الفن فقط، كما يصفه الكثيرين، والواقع أنه بات منافسة في المزادات والأسعار المرتفعة، في الوسط المحلي السوري، وهذا خلق حيرة عند الفنان، ما تقييمك لذلك؟
هناك قصور في فهم الفن التشكيلي وقدرة ضعيفة على امتلاك أدواته بشكل كامل، والإشكالات حول هذا القصور، مردّها الأمّية البصرية المنتشرة بين الفنانين السوريين بنسبة 90% ، ومعظمهم لا يدركون حقيقة الفن، وينظرون إليه من زوايا ضيقة، الفن أوسع من ذلك بكثير، لكن تلك النظرة أحدثت بعض المغالطات أمكنتنا من التماس القصور حول فهم الفن في الوسط التشكيلي السوري، الذي صار الفنان يأخذه بقوالب محدودة ضيقة لا يمكن تجاوزها، فكيف بهذا الانحدار يقيّم الفن؟ ألا يتسم بالمبالغة والتزييف؟وهذا ينسحب على تجارة الفن وما أثير حولها في الآونة الأخيرة
ــ ما منظورك إلى النقد في الوسط التشكيلي السوري؟
النقد مسألة متأخرة في وسطنا التشكيلي، وتكاد تكون غير موجودة، لكن لا يخفي ذلك ظهور انطباعات شخصية أو معرفية تعتمد على قاموس فني يتطابق مع العمل أو لا يتطابق.
ــ رأيك في واقع الحركة التشكيلية السورية؟
حركة متطورة جداً رغم غياب النقد الحقيقي والقصور البصري وهذا سبب في الفوضى التي نعانيها في بيئتنا المحلية.
ــ ما هي المتعة الحقيقة في حياة عبد الرحمن مهنا؟ وكيف يصفها؟
عندما أجالس جليساً وبدون أي شوائب، أتحاور معه بحرية وصفاء تتحقق المتعة، وهذا الجليس قد يكون امرأة أو صديق أو كتاب أو لوحة.
رموز قريبة من الرسم التوضيحي "الموتيف"
حول أعمال الفنان السوري، قالت الدكتورة "مونيكا سبال" ناقدة ألمانية:«يرسم الفنان "عبد الرحمن مهنا" بالشعر، فرسوماته تتحدث إلينا بلغة الرمز واللون إنه يروي لنا قصصاً عن شعب سوريا عائلات وأطفال وعشّاق، ويخلق اختياره للون جواً من الانسجام والحب والأمل وهو يلتفت إلى الناس الوحيدين والتعساء والغاضبين، وتستطيع أن ترى هذا في وجوههم لكن في أعماله الألوان تعبر عن العواطف التي تتدفق داخل هؤلاء الناس».
وأضافت: ما يميز فن "عبد الرحمن مهنا" هو ذلك التوفيق في رسوماته، فهو يستخدم عناصر تقليدية من الثقافة العربية المتحدة في نسيج من الأشكال الهندسية حيث تظهر الوجوه والأجساد في محيط مجرد من المستطيلات والمربعات، ويمكن تفسير الأشكال بنفس الوقت كأناس ينظرون من النوافذ وسرعان ما ترى أن الناس والبيئة المحيطة بهم يبنون وحدة وأنهم أجزاء من جسد واحد، إنه يحسن القبض على الحالة في لحظة معينة ويطبعها على لوحاته.
وقال الدكتور"محمود شاهين" محاضر في كلية الفنون الجميلة "بدمشق":«أن "عبد الرحمن مهنا" طاقة نشيطة محروسة بالتواضع والصدق وموهبة تلتزم قضية نبيلة وترتسم في الواقع فناناً وسلوكاً وأخلاقاً حسنة، إنه الفنان والإنسان العصامي المكافح الذي خلق نفسه بنفسه دون صخب أو ضجيج أو ادعاء، مارس التصوير والرسم بتقنياته المختلفة وبخصوصية بدأت تتبلور وتتأكد لتأخذ اتجاهاً خاصاً متميزاً على قدر كبير من التفرد».
وحول موضوعات أعماله، قال "شاهين":«يلجأ "مهنا"في موضوعه الذي يتناول الرجل والمرأة والوجوه إلى استخدام المساحة اللونية الشاعرية الواسعة المؤطرة بخطوط لينة، يأخذ فيها التكوين بشكل تيار يدخل اللوحة من الأسفل إلى الأعلى».
وأضاف: تبدو أعماله برموزها أقرب إلى الرسم التوضيحي "الموتيف" الذي عرف فيه بالعديد من خلال عمله في المجلات والصحف، مضافاً إليه اللون، اتجاه مطور لبدايته المعروفة وفيه يشغل كامل مساحة اللوحة بتكوينات هندسية مبنية بإحكام وتوازن لوني وخطي، تؤكد أنه أصبح يمتلك خبر ة واسعة في كيفية التعامل مع هذه اللغة الإبداعية الصعبة والجميلة.