عدنان كنفاني :المبدع الحقيقي لا تعيقه عثرات صغيرة

علاء الجمّال

عودنا القاص والروائي الفلسطيني "عدنان كنفاني" في تعاقب مخطوطاته القصصية والروائية، والتي نذكر منها «قبور الغرباء, وأخاف أن يدركني الصباح، وتطير العصافير, وخدر الروح, وبئر الأرواح، ورابعة» أن يقدم لنا أطروحات أدبية خارجة من صفحات ماض أليم، وفيض إنساني مشحوذ بالصبر, وضمير حي، وقيم لطالما حرص على استمرارية نبضها بين سطور مؤلفاته ومفرداته.

أمضى كنفاني المولود في يافا فلسطين عام 1940 حياته في دمشق، ومن حواريها بدأت رحلته، كتب منذ البدايات في الشعر والمقالة والدراسة والبحث, ونشر في الصحف والدوريات العربية والمحلية والأجنبية, وهو العضو في اتحاد الكتاب العرب في سوريا, وعضو فخري في جمعية الفكر والأدب المعاصر, حائز على جائزة أفضل عمل أدبي في مسابقة الخميني للإبداع في يوم القدس, وكرّم على العديد من أعماله الأدبية والقصصية.

موقع المفكرة التقى الروائي عدنان كنفاني وأجرى معه الحوار التالي:

*بدأت بنشر نتاجك الأدبي بعد عمر ناهز الثامنة والخمسين، فما هو سبب تأخرك إلى هذا الوقت؟

**بدأت الكتابة مذ وعيت الحياة مع أخي الشهيد "غسان كنفاني" الذي يكبرني بأربع سنوات وأعتبره مثلي الأعلى ونبع المعرفة الذي أرتوي منه, كنا نكتب وننشر منذ ذاك الوقت  وفي عام 1972 تموز يوم استشهاده وأنا أسير في جنازته مع طوفان من البشر  جاءني خاطر تمسكت به، وهو يتلخص بأنه يجب علي أن أغيب عن الساحة كي يبقى كامل الضوء على غسان ولا يشاركه في ذلك كنفاني آخر.

 فرضت علي الحياة أن أكون مسؤولاً ولو معنوياً عن رعيلٍ من الأطفال تربوا في بيتي وهم أبناء أشقائي الشهداء وأخوتي الصغار..هكذا أخذتني الحياة إلى جانب ما كنت أكتب وألقيه في الأدراج وفاءً إلى مسؤوليات وجدتها أكثر أهمية مني, كنت شاباً عرضة للإغراءات وخائفاً أن يقال عني أنني أتسلق سيرة غسان إلى أن بلغت من العمر ما أتصوره الأبعد عن طموحات منصبيه أو مكسبيه، ولم يبق أمامي إلا أن أنشر مؤلفاتي الأدبية, فقررت ونفذت وكان ذلك سريعاً.

*هل واجهتك صعوبات؟

**الصعوبة الوحيدة التي واجهتها هي في كيفية نشر الكتاب وكلفته المالية, أما في الأمور الفنية الآخرى وبكل تواضع أتصور بأن الرجل الحقيقي الذي يحمل قيمه ويستطيع أن يعلن حضوره بسهولة.

الأدب في الفكر المعاصر

*لكل أديب عالم إلهاميّ ينهل منه فيض ثقافته وإبداعه، ماذا عن عالمك الخاص؟

**الكتابة والقراءة والمتابعات الأدبية هي النبض الذي يغذي عروقي، وقبل ذلك كله أعتبر نفسي حاملاً لهموم الوطن ومسئولا عن الرسالة الأدبية التي أحمل، و حرية قلمي هي ترجمان قلبي فيما يحسّه اتجاه مسؤوليتي وما يمليه علي ضميري اتجاه وطني و واجبي.

*كيف تنظر إلى الرواية السورية والحداثة التي طرأت عليها مؤخراً؟

**الرواية في سوريا تسير صعوداً وإنما بخطى بطيئة, فهناك كتاب مثلاً على مستوى رفيع ورقيق ومهذب في التعامل مع الألفاظ الأدبية أولئك أتابع أعمالهم, لكنني في الوقت نفسه أتصور أن موضوع الحداثة أحدث إرباكاً في رؤى بعض الروائيين وأعتقد أنها مرحلة سنتجاوزها.

*أين تنحصر مهمة الأديب برأيك؟

    **في أن يكون ضميراً حيّاً للآخرين والبوصلة التي يهتدون بفضلها إلى السياسة الحكيمة التي تبني أنفسهم وآمالهم.

*ما السبب في رفض الأدب المعاصر للفلسفة.

**الحرية والتحرر آفاق لا يستطيع أحد أن يصل إليها وهي خلاصة نظم فلسفية وأخلاقية عالية تخرج من الأدب أدباً وإن حدث نفوراً فلعجز البحث وضيق الفكر, كتبنا الصفراء مليئة بشتى أنواع العلوم وأشكال الكتابات، ولكن كما يقال «لكل مقام مقال» والأكفأ وسط هذا المجتمع من يستطيع العبور إلى تلك الآفاق ويثبت نفسه. 

 

الحداثة وقضايا النقد الأدبي

*بعض الكتاب لا يحترمون القارئ فيما يكتبون، وبعضهم الآخر يتلهى بعرض أفكاره وطرح إسفافه في العبارات المرمزة بين السطور، ما تفسيرك لذلك؟

**يوجد أمر مهم بين الكاتب والقارئ، أهمها عدم الاستهانة في مقدرة القارئ بل الحرص على مشاركته في عملية الخلق الإبداعي أثناء توحده وانسجامه مع موضوع الكتاب الذي يقرأه خاصة الرواية والقصة، بمعنى أن يمس النص المقروء هموم هذا القارئ، ويفتح أمامه مساحات كبيرة للمشاركة في عملية الخلق الإبداعي من خلال التخيل ومعايشته للشخصيات التي يقرأ أحداثها  بصورة حسية عميقة، عندها فقط نستطيع أن نفرق تماماً بين المستعرض الذي يتجاهل القارئ أمام الأنا الشخصية التي ينطوي فيها، وبين المبدع الملتزم عبر مؤلفاته الأدبية بهموم الناس.

*النقد غير البناء سلاح المثقف الضعيف اجتماعياً وأدبياً، هل هذا حقيقة أم ادعاء؟

**يعدّ حقيقة إذا كان الناقد غير مثقف بما يكفي وليس ملماً بثوابت النقد البناء، لاسيما وأن أكثر ما يعانيه أدباؤنا المعاصرين هو ندرة النقاد المحايدين والمتمكنين من أصول النقد الآكديمي البناء، وهذا يفتح الباب واسعاً أمام مدعي النقد أعني أشبال النقد الصاعدين ليتمسكوا بآراء نقدية فضة وهادمة لا ثوابت لها عوضاً عن الإلمام بمدارس النقد القديمة والحديثة وتوجيه الرأي النقدي الصحيح  ليكون كلمة بناءة ترفع من مستوى الكاتب ولا تنقص من قدره وتعزز له ثقته بقلمه وكلمته وليس العكس.

   

 

*هناك العديد من الكتاب في سوريا عزفوا عن كتابة الرواية والقصة تأثراً بالرأي النقدي غير البناء وفكرة الأنانية التي سادت الغالبية العظمى من العقول المفكرة اليوم، ما الحل برأيك؟

   **تصرف خاطئ أن يهجر الكاتب تأليف الرواية والقصة نتيجة تأثره بالآراء النقدية غير البناءة، والمبدع الحقيقي لا يقف أمام عثرات صغيرة تعترضه مثل النقد التهجمي الحاد, وإنما نجده متحل بإرادة ثابتة لا تقهر والعزيمة تصنع الكثير، أما ضعيف الإرادة يبقى متحيراً بمؤلفاته والشك يضعف من رأيه وصلابته، هنا يأخذ النقد الحاد فعله في نفسه ليلقيه محبط العزيمة والطموح على هامش الأدب  مبتعداً عن درب نبيل اتخذه لمستقبله وحاضره.

دعنا نعود إلى مسألة مهمة وهي أنه يتوجب على الكاتب المبدع أن يكتب بإصرار ثابت لا تقهره عثرات صغيرة مثل النقد الحاد غير البناء, أما الناقد فعليه أن يلحق ذلك الإبداع أو النتاج الأدبي وما يكتبه عنه يدل على  مخزونه وثقافته، وإنما الحكم الحقيقي يبقى للقارئ نفسه.

الأخلاق الفاضلة في النفوس الإنسانية

*قال "روسو" في كتابه العقد الاجتماعي «خلق الإنسان حراً وهو مستعبد في كل مكان» ما الحرية في تصورك؟

**الحرية في تصوري مفهوم شعبي و ملك للجميع  ويجب أن تكون محاطة بقيم أخلاقية تحول دون انفلاتها إلى فضاءات عبثية مصيرها محتوم، ويكفي أن تشعرك أنك حر في منظومة اجتماعية متكاملة أساسها أنت, أما الحرية عبر منظومة المفاهيم السياسية فهي أمر مختلف، والاستعباد من ضعف النفس  وأعتقد أن أهم مسؤوليات المثقفين في عصرنا الحالي العمل على التخلص من ضغوطاتهم وتربية الأخلاق الفاضلة في النفوس الإنسانية، فبقدر ما أشرقت هذه المنزلة ارتقت الحرية إلى مفاهيم أمسى. 

*ما هو شعورك حيال ما يعانيه الشأن العربي الآن؟

**تتعرض المنطقة العربية بكاملها الآن إلى شتى أنواع المصاعب والمخططات المشبوهة التي تحاول أن تخضعها إلى مصالح الآخرين بطريقة أو بأخرى، لكنني في الوقت نفسه أؤمن بنقاء هذا الشعب الذي يحمل تاريخاً زاخراً وثقافة خاصةK سيستطيع عبرها أن يتجاوز كل تلك المؤامرات والمخططات المشبوهة بغض النظر عما نمثله من حكومات، ومهما طال الزمن سيحدث الانتصار ويمجد الحق. لم تبق أمة فيها نزعة القتل والاغتصاب وفرض الهيمنة والجبروت إلا وغزت منطقتنا العربية وعبث بأرضها فساداً وتخريباً، أين هم الآن؟ ذهبوا ونحن بقينا وسنبقى.

*دمشق ماذا تعني لك؟

**دمشق عبق في ذاكرتي والحياة التي تنبض في قلبي, ماؤها الذي منح عروقي عشقها الأبدي إنها وطني الذي أعتبره امتداد لوطن ولدت فيه. دمشق هي نبض الوجود العربي الأصيل الذي يخفق في كل العالم خفقات السلام والوفاء, ربما أن المعاناة القاسية لن تزول لأنها تخلق إنساناً حقيقياً إن رغب الامتعاض بها والتعلم منها، فإنه عندما يتعرض للأسوأ سيجد أن كل ما هو دون السوء فاضلاً.

كثبان الرماد الأسود

صدر للروائي العديد من المؤلفات القصصية والروائية وأخص منها بالذكر خدر الروح ورواية رابعة ومجموعته القصصية الصادرة حديثاً عن مؤسسة فلسطين للثقافة والفكر بعنوان «بئر الأرواح»، والتي تقع في 125 صفحة من القطع الصغير، وتضم بين صفحاتها 14 قصة نذكر منها « أربعة أيام حصار، المعبر، الغربان  والخريف، بئر الأرواح، شاهدة دم، شجرة الليمون».   

 تناولت المجموعة عبر أبعادها الفكرية ومساراتها التخيلية القضية الإنسانية في كل العالم، وهم الشعب الفلسطيني، وحالة الصراع المرير الذي يعيشه بين كثبان الرماد الأسود الدخيلة على معقل حريتهم وأمانهم، يناجي الروائي الأرواح الصاعدة من أجساد الشهداء والقتلى والأسرى تحت وطأة الظلم و القهر والاستعباد وتقول كلماته:« عودي أيتها الروح التي حملت أنفاسنا المضرجة بالدماء، آمنة خالصة النقاء إلى موطنك  أقاصي السموات مبروءة من الذل والهوان، لتعودي يوماً إلى أرضك التي أحببت وانتهكت حقوقها محررة وسيدة للحرية والحق والفضيلة، كما هو سابق عهدك.

ويقول الدكتور "يوسف حطيني" حول المجموعة القصية «بئر الأرواح»: « في تداخل هذه القصص تولد الحياة في لحظة الموت، وينبض قلباً جديداً حين يغفو رأس شهيد فوق التراب»، ويضيف: تظهر لنا الأحداث المتوالية للقصص سمات الإنسان العربي الفلسطيني الذي لا يرى الناس سواسية أمام الموت، بل  يرى شكل الموت هو الذي يعطي الحياة قيمتها، كما تظهره لنا شاهداً وشهيد لا يموت في برهة التوهج الربيعي والنضال ضد الجبروت والهوان.

ويشير الدكتور حطيني إلى أن القصص تمثل نموذجاً للعدو القادم على جناح حلم خرافي وهو يواجه طقسه الخرافي وخوائه الروحي، وخوفه من المستقبل.

 

ويقول الدكتور "أسامة الأشقر" المدير العام لمؤسسة فلسطين للثقافة والفكر:« تجد لدى الأديب كنفاني لغة تجمع بين النعومة والقسوة، بين الخيال السابح والواقعية المبسطة، مع اختيار دقيق للفكرة وسلوكها وحركتها، ليخرج لك مشاهد كبيرة لجزيئات تفصيلية تخضعنا عند قراءة عمله إلى التأمل والانفعال عند النظر العميق في مكنونات السطور».