"علي الكفري": الوحدانية أهم عبادة للفنان
حكمة الرؤية في جزيئات الشكل والتصورات البعيدة
"علاء الجمّال"
"علي الكفري" فنان تشكيلي فلسطيني سوري، مارس ولهه الإلهامي في التشكيل بشغف الباحث العالم المتمسك بدقائق العلوم وأعقدها، لكن في لغة اللون والشكل البصري المترف بالحكمة والتأمل التجاوزي للمكان والزمان، يحرر أساطيره المقتبسة من التراث والمشاهدات، إلى عالم فسيح الامتداد، الجزئيات فيه لوحة تحمل مضامين فكرية بل رسائل وآداب تنأى بنا بعيداً عن شغب الحياة وصراعها المستمر، إلى الحقيقة المحتجبة بالسلام والسكون.
eSyriaعايشت "الكفري" سلامه الروحي، وبادله هذا الحوار، خلال لقاءه في 21/10/2008 بمرسمه التراثي في منطقة "صحنايا بدمشق":
ــ تبدو العناصر التشكيلية لديك ذات هندسة عقلانية، خاضعة إلى دراسات معمقة في تاريخ الفن ومستندة إلى تراكمات جمالية تضج به الذاكرة لديك، ما مفهومك حول الهندسة العقلانية في اللوحة، وماذا عن الحالة الإبداعية التي تضع عناصرك التشكيلية في هذه التراتبية؟
الجوانب التراثية في التشكيل استخدمها عدد كبير من الفنانين التشكيليين، وكل واحد منهم أخذها بطريقته وأسلوبه الخاص، وهذا الأسلوب يجب أن يكون ملك صاحبه وحكر عليه فقط، حتى تظهر شخصيته في العمل، التي تميزه عن الآخر، وكل فنان له تقنيته الخاصة، وهي من ضمن الأسلوب التعبيري الذي يتمتع فيه.
إن التقنيات تختلف من فنان لآخر مثل الأسلوب بحيث لا تؤثر على الموضوع أو المضمون أو الشكل، وتكون منسجمة مع العمل بكل عناصره "الخط واللون والتكوين والضوء"، وهو العنصر الأساسي في العمل التشكيلي.
أي فنان عندما يتهيأ إلى إقامة معرض بصالة كبيرة ذات مساحة شاسعة وشهرة عالمية، يجب أن يكون مستعداً إنسانياً، وله بحث جاد من أجل أن تأخذ اللوحة مكانها المناسب من حيث العرض ومن حيث رؤية المشاهد، وهذا ما قمت فيه في معرضي من حيث الموضوع والتقنية والأسلوب لكي أقدم بحثاً جديداً متطوراً في الفن التشكيلي، وربما نجحت وربما لا وهذا حكم للجمهور والنقاد.
ــ ماذا عن خصوصية الأسلوب الذي تتبعه في التشكيل ضمن معرضك الجديد في صالة "السيد" بدمشق؟
هي نوع من الواقعية والتعبيرية، استخدمت عبرهما تقنية جديدة، حيث تلاحظ في كل لوحة أنه لا وجود للمسة ريشة، لا لون فاتح أو مزعج نشعر مجموعة الألوان متداخلة مع بعضها البعض بدون إزعاج، كما استخدمت بعض الألوان من الصفحات الصحف والمجلات.. وهذه طريقة خاصة بدون كولاج أو لصق، ولم يسبق لأي فنان أن استخدم هذه الطريقة لا في الوطن العربي ولا في العالم حتى هذا رأي عدد كبير من النقاد والباحثون في الفن التشكيلي الذين رأوا أعمالي مثل الدكتور "عبد العزيز علون".
ــ يلاحظ أيضاً غياب للطبيعة في اللوحة ككل؟
نلاحظ وجود طبيعة غير مباشرة في كل الأعمال، لكنها ليست عنصر أساسي، ونلاحظ أن عنصر المرأة خلف منه طبيعة ولكنها غير مباشرة، وإنما مكملة للعنصر الرئيسي، وهناك موضوعات خاصة في الطبيعة الصامتة من ضمن المعرض، وهي تجربة من تجاربي السابقة عدت إليها كربط بين التجارب القديمة والحديثة.
طبيعة الشرق سحر عفيف للفنان
ــ ما تصورك للموروث العربي الإسلامي الشعبي كمحور إلهامي في اللوحة؟ وكيف تعمل على الإفادة منه؟
الموروث: هو كل شيء مجسم وخالد، وتعج به المتاحف العربية والأوربية، مثل اللباس التراثي، والأواني الفخارية والتماثيل والبيوت القديمة والزخرفة الإسلامية في المساجد والخط العربي.. وهذا الموروث تتميز به كل دولة عن أخرى، ويحمل مضموناً واحداً، وأنا أفدت من التراث الإسلام بموضع الفخار لأنه موجود قبل الإنسان، وهو عنصر أساسي في جميع أعمالي، استخدمته استخدامات لفتت أنضار الناس في عمليه الكتابة الإسلامية، والآيات القرآنية.
الفخار عنصر أساسي استوحيته من آية في سورة "الرحمن"، تقول: «خلقنا الإنسان من صلصال كالفخار»، دليل على أن الفخار وجد قبل الإنسان، وفي معرضي الحديث حولت بعض الخطوط التي كنبتها على الفخار إلى زخرفة إسلامية ورسوم إنسانية وحيوانية ونباتية، لأن الخط العربي لدي أخذ حقه في مجموعة من الأعمال، وأنا حاولت أن أجدد في هذا الموضوع.
ــ كثيراً ما تركز على الزخرفة لإسلامية في اللوحة لديك، فتبدو كنقطة جذب للعين المتأملة، ما منظورك إلى هذا الجانب؟
العناصر التي أرسمها في لوحتي يستطيع الإنسان أن يستخدمها في حياته اليومية من بساط إسلامي يحوي زخرفة أو آنية فخارية، واستخدام اللون "الفيروزي والنيلي المزرق"، المسيطر على كل ألوان الخزف، لذلك أنا أعيد الحياة لها من حيث الرسم والروح من جديد.. وهذا ما يشد المشاهد للعمل أو القارئ لهذه اللوحة والمسارعة إلى اقتنائها.
ــ اليقظة الحديثة "للفن الإسلامي" برأيك هل بدأت تأخذ طريقها في العالم الإسلامي والغربي، كحالة متفردة في استعادة معالم الشرق الأصيل ورقيّه؟
هناك عدد من الفنانين الأجانب في "أوروبا وآسيا" مثل "الإتحاد السوفيتي وماليزيا وفرنسا" بدؤوا يهتمون بالفن الإسلامي أكثر من الفنانين العرب أنفسهم، وهذا شاهدته عند أكثر من فنان روسي وهندي وباكستاني.. كذلك في "ماليزيا واندونيسيا" ومع الأسف أن الفنان العربي بدأ يلجأ إلى الفن الأجنبي الحديث، ويتبع أسلوبه الذي لا يمت بأي صلة للفن العربي أو الإسلامي، ودليل ذلك المستشرقين وفن "الاستشراق"، الذي ملأ الدنيا بأعمال فنية رائعة من قبل فنانين أوروبيين. ولا ننسى أن طبيعة الشرق فيها سحر عفيف للفنان، تجذبه بكل زاوية من زواياها التي تمثل لوحة.. وهذا جعلني أستقي موضوعاتي من النبع التراثي الذي لا ينضب والغني بعناصره وألوانه..
الخط العربي عنصر جمالي مكمل في لوحتي
ــ للخط العربي وزن جمالي في تصورك كفنان، ما ثقل هذا الوزن؟
الوزن الجمالي بالنسبة إلي يتعلق بتوظيف الخط العربي في أعمالي الفنية كعنصر مكمل للوحة وليس عنصر أساسي، والسبب وجود عدد كبير من الخطاطين في الوطن العربي، يوظفون الخط كلوحة تشكيلية فقط بدون عناصر أخرى، وأنا أستخدم الخط كعنصر مكمل، فلو حذف من اللوحة تبقى هناك لوحة، وقد أوظفه في كتابة تصميم سجادة أو على نافذة أو فخارة..
ــ ماذا توحي إليك المواقف السكونية التي تحدث في الواقع المعاش من حالات إنسانية، مثل حارات دمشقية خالية من عنصر الحركة، أو ياسمينة في زاوية جدار ؟
الوحدانية للفنان أهم عبادة في العالم، فقد عشت هذه الوحدانية مع الطبيعة وفي سكينة الحارات الدمشقية القديمة، وفي أحد معارضي استقيت موضوعاتي من جدرانها قبل أن تدهن بالأبيض، فتجد جدار كامل عمره ألف سنة وعليه عوامل من الطبيعة، تصدعات وزلازل وسيول من مياه الأمطار.. كلها تترك تأثيراتها عليه وتعطيك إيحاءات لا تعرف إن كانت إنسانية أو حيوانية أو نباتية، ولم أزل متأثر بها وأتجول في شوارعها، رغم أنها دهنت بالأبيض إلا أنها تترك أثراُ في نفسي لأن الأبيض عندما يتعرض إلى تلك المؤثرات الطبيعية يصبح لوحة ويعطيك قيماً جمالية أخرى.
ــ اللون خليط تركيبي دقيق من حيث الصياغة البصرية، حيث يوضح لنا حيال رؤيته كل المدارس الفنية لكن بلغة تعبيرية معاصرة لها وزنها ومكانتها، كيف تقرأ ذلك؟
اللون الذي أستخدمه في أعمالي أحياناً غير موجود في الطبيعة، ولا أستخدم اللون الجاهز أو المصنع، ألواني أستخرجها من التراب، وبعض بذور النباتات أنقعها بالماء ثم أقوم بغليها، كما استخدمت تأسيس أرضية اللوحة في الشموع السائلة لكي أعطيها إحساس الأيقونة.
ــ الخروج عن المألوف في الفن التشكيلي، هو الفن الحقيقي المحاط بالغموض أو الفتون البصري في اللون والتكوين، وليس الفكر القائم على المباشرة والمبدأ الأكاديمي في الفن، ما توضيحك لهذه الرأي؟
المدارس الفنية في العالم مأخوذة عن قواعد ثابتة، وكل ما يقال خروج عن المألوف ضعف في الثقافة الفنية أو بالمدارس الفنية، إن الفن الحديث لا يخرج عن المألوف لكنه يبقى فن و هناك بعض الفنانين يستخدموه من دون دراسة، رغم هذا إنه فن قائم بحد ذاته ومعترف به دولياً، ويحتاج إلى دراسة معمقة وتجربة طويلة في الفن التشكيلي، ولا يبدأ في الشباب بل في سن متأخرة من حياة الفنان، عندما يصبح لديه مخزون ثقافي مرجعيته المدارس التشكيلية والمشاهدات يبدأ بتلخيص تجاربه بنوع من التجريد أو التبسيط في اللوحة، فتلعب العفوية هنا دوراً هاماً دليل ودليل ذلك الفنان الإسباني"بابلو بيكاسو".
حسٌّ ظاهر بالمسؤولية
حول أعمال الفنان، قال الناقد التشكيلي ـ الدكتور "عبد العزيز علون": «يمتلك "علي الكفري" حساً تجريبياً غنياً في مجالات التقانة وتوليد الألوان، وإغناء نسيج لوحته بحس أملس ساحر، أدخل عليه الشمع الذائب في سطح مائياته ذوقاً مرهفاً أغنى زهرياته الرائعة».
وأضاف: «لقد عرفنا "علي الكفري" في الثمانينات والتسعينات من خلال مائياته المؤثرة، التي نافست في تقاناتها وأغلفتها الرقيقة الشافة لطبقات الشمع، وفاقت في تأثيرها اللوني التصوير الزيتي القديم، كما استقرت صورة الفنان الذواقة للمفروشات العاجية، وأطباق الصيني والسجاد القديم. إننا نحترم "لعلي" حسه الظاهر بالمسؤولية أمام جميع جوانب تكويناته وعناصر عمله الفني».
وقال فيه الراحل "فاتح المدرس": «يستطيع الكفري أن يمنح الأشياء من حولنا حرارة لطيفة تمتاز بالأناقة، وتنظيمها تشكيلياً يجعلها تأخذ مكانتها بنظام معقد متكيف مع المفاهيم التشكيلية المعاصرة بإحساس شرقي صريح وهادئ يملأ أدق فراغات العمل بحركة لونية متجانسة، كما إن رصافة الألوان لديه في تجاورها وتمازجها، تطلق موسيقى خافتة فيها الكثير من الغربة والحنين ونداءات مفعمة بشعور الوحدة والقوة، فالبناء التجريدي في أعماله واضحة وإن جاءت مكونة لأشياء من الطبيعة الصامتة فهي ذات دفء حي».
ببلوغرافيا الفنان
رسم الفنان "علي الكفري" خلال حياتي 3000 تجربة، جسد فيها الواقع والتجريد والتعبيرية والكلاسيكية، وحصيلة تجاربه الإبداعية الممتدة إلى نحو 38 عاماً، بدأ يعمل على تلخيصها في الموضوع التشكيلي، بعد أن بحث فيها عن تأسيس اللوحة والتقنيات، عمل في "سورية" 10 جداريات تبلغ الواحدة منها 15 متراً، وله لوحة جدارية رسمت عام 1981 في "ألمانيا" الغربية في مدينة "أولدون بورك" تبلغ 5 أمتار، صور فيها الخيل العربي بكل حليته، مستخدماً ألوان الشرق، رغم أن الفنانين الألمان كانوا يرسمون الخيول بألوان باردة، وكرم من قبل المحافظ هناك على إنجازه، له ما يزيد عن 22 معرضاً شخصياً، ومشاركات جماعية متعددة، عضو في اتحاد الفنانين التشكيليين العرب، وفي اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين وفي نقابة الفنون الجميلة "سورية"، أعماله الجدارية مسجلة و مقتناة في العالم.