"غسان عموري"... روحية وخصوصية العزف السوري لآلة القانون
كمال شاهين
قادماً من "عمان" العاصمة الأردنية إلى حلب "أم الطرب وأبيه" حط العازف والموسيقي السوري الجميل "غسان عموري" رحاله في "اللاذقية" ليفاجئ عشاق الموسيقا هنا بسهرة لن تنسى طويلاً.
لآلة القانون حضورها المختلف عن حضور بقية الأدوات والآلات الموسيقية، الشرقية منها والغربية، فهي عدا عن تراثيتها "الفارابية الحلبية" تحتضن طيفاً واسعاً من القدرة على تنويع اللحن ومقاماته واتساعاته في الشرق والغرب سوية، وقد برهن الموسيقي "عموري" على ذلك فبدأ السهرة الموسيقية التي أقامها "البيت العربي للموسيقا والرسم" في "نادي الأوركسترا" مساء 7 أيلول 2014 بمقطوعات غربية إحداها للموسيقار العالمي "باخ"، لينتقل بعد ذلك إلى عوالم السحر الشرقي فأبدع مع "سيد درويش، ومحمد عبد الوهاب، وبليغ حمدي في "رباعيات الخيام" و"الأطلال"، و"يا حلاوة الدنيا"، ثم التراث اللاذقاني "يا ماريا" و"يا محلا الفسحة"، لينتهي مع الموشحات الحلبية التي أسكرت الحاضرين بعمقها وموسيقاها، ليتفق الجميع على الترنم مع العازف بهدوء أضفى على المكان هالته الحلبية الكاملة.
"غسان عموري" عازف سوري من الطراز العميق والعتيق، تواضعه الجم وحضوره الثقافي المميز يجعل من الحوار معه متعة الباحثين عن صوت مختلف في عوالم الموسيقا السورية. مثّل سورية في عدة عواصم عالمية عن هذه الآلة الساحرة في "روما وكندا"، وكان آخرها في "مهرجان القانون الدولي الأول" في "جرش" الأردنية حيث حقق مركزاً متقدماً عن عشرات المشاركين في المهرجان الذي أقيم العام الحالي.
تخرج "غسان" من مدرسة العازف الحلبي الشهير "حسان تناري"، كما درّبه على العزف والده عازف القانون أيضاً، والعدوى الجميلة هذه أصابت العائلة كلها، فأخوه "عامر" يعمل مع فرقة الفنان الكبير "صباح فخري"، وهو الآن يدرّس في معهد "صباح فخري" في "حلب"، حيث يتخرج سنوياً عشرين عازفاً على آلة القانون فأكثر.
يقول الفنان "عموري":« خمسة منهم يرتقون إلى القول إنهم من العازفين النخبة، وذلك لسببن هما الحب والموهبة، فحب آلة القانون هو المدخل السري للإبداع فيها، لأنها آلة ليست سهلة ولا مطواعة إلا لمن يعشقها، وأما الموهبة فهي التي تصقل عبر التعلم الدقيق والتدرب بما لا يقل عن خمس ساعات يومياً".
يقلق الموسيقي "عموري" على مستقبل القانون السوري قليلاً، ويقول: «أكثر من 90% من عازفي القانون اليوم في سورية، ينتهجون الأسلوب التركي في العزف، ويبتعدون عن الأسلوب السوري وروحيته، هذه مشكلة تستحق الانتباه من المعاهد والمدارس والمؤسسات الثقافية، ومن العازفين بالدرجة الأولى، فالأسلوب السوري في العزف والمحتوى ينتمي إلى الخصوصية السورية، كل منطقة سوريّة تعزف القانون بروحيتها، هكذا يجب أن يستمر الحال، وإلا سنفقد هذه الميزات الجمالية عندنا، عولمة الموسيقا ليست قدراً على الجميع، خاصة في ظل وجود قاعدة وتراث موسيقي لآلة القانون، لا يمكن نسيان "الفارابي" الذي أبدع بها أيما إبداع، فأبكى وأضحك ونيّم الناس في مجلس "سيف الدولة الحمداني"، هناك الكثير من عازفي القانون السوريين المشهورين، الذين تركوا بصمتهم في تاريخ هذه الآلة، فتركوا جملة موسيقية لها هارموني خاص بها، ما إن تسمعها حتى تتأكد أنك تستمع إلى لحن سوري».
يتدخل الموسيقي "زياد مليّس" في الحديث ويقرأ لنا هموم وشجون الموسيقا السورية: «ليست آلة القانون وحدها المظلومة لدينا، كل أنواع الموسيقا أيضاً، المشكلة أنهم في المؤسسات الثقافية يأتون بالموسيقيين والفرق الموسيقية من الخارج بالشيء الفلاني، بينما يبقى ابن البلد بانتظار الصدف والعلاقات الشخصية كي يشارك في الحفلات الرسمية أو يقيم حفلات خاصة به في هذه المؤسسات، ولذلك ينجح الموسيقي السوري خارج البلد بينما يبقى داخل بلده مظلوماً».
يوافق الموسيقي "عموري" على حديث الملحن "زياد"، ويضيف: «نحن من مدينة تسميها الأدبيات الرسمية "أم الطرب"، من وجعنا الآن بكل أنواعه، الإنساني والاجتماعي والفني، نبحث عن قنوات لإيصال الإبداع إلى المتلقين، لسنا نهتم كثيراً سوى للموسيقا، عاملونا كما تعاملون هؤلاء الذين تحضرونهم من أقاصي المعمورة وهم ليسوا بأحسن منا، في "كندا" و"روما" و"جرس" و"أثينا" شكل العازفون السوريون علامة فارقة فيما قدموه للعالم هناك، لقد كانت المقطوعات الأولى للموسيقا من هذا الشرق».
حضور كبير ملأ الأوركسترا كباراً وصغاراً شارك في الاستماع إلى أنامل العازف "عموري" وهي تسرح في براري أوتار القانون، لعلها المرة الأولى التي يلتقي فيها جمهور "اللاذقية" بآلة القانون مع عازف اختصاصي له سمعته المحلية والدولية، يقول المخرج "قتيبة غانم": «إن هذا الرجل يلعب مع آلة القانون كما لوكان عاشقها، من اللحن الغربي إلى الشرقي لا تكاد تتبين سوى وقع نغماته في الأسماع، الموسيقا هي الطريقة الأكثر حضارية للتأكد أننا لا زلنا على قيد الحياة، مبادرة طيبة أن نلتقي هنا في زمن خراب الذوق السوري بمثل هذا العازف الجميل، وآمل ألا تكون طفرة ننساها بعد فترة، شكراً للبيت العربي على مبادرته هذه».
المحامي "جورج تركماني" تابع العازف بشغف، سألته لماذا هذا الشغف؟ فأجاب: «أنا أعزف العود، وسبق لي أن كنت مرتلاً مع كورال إحدى الكنائس، هذا الشغف ربما يأتي من الرغبة بأن يكون عندنا في "اللاذقية" أمثال هذا العازف الجميل المتواضع الحاضر بأصابعه ونغماته، لعل من فضائل هذه الأزمة إن كان لها فضائل أساساً، أنها عرفتنا على هؤلاء السوريين الرائعين، وجه آخر لسورية الحضارة والإنسان، هذا هو وجه سورية الحقيقي».
يختم العازف "غسان عموري" حديثه بما قاله المتنبي ذات قصيدة مغيراً كلمة واحدة:"كلما (ضاقت) بنا السبل ..... قلنا حلبٌ قصدنا وأنتَ السبيلُ".