"فواز عبد القادر".. اختزال الحياة على الحائط
كسار مرعي – الحسكة
بعد ان سُدّت في وجهه كل الطرق وأصبحت وجهته لا محالة؛ إلى الحائط الذي سد عليه الطريق، قرر وبكل رباطة جأش أن يرسم الحياة عليه على الرغم من وقوفه في وجهه، إذ لم يسمح له أن يكون نهاية الطريق الذي تنطفئ عنده جذوة الأمل، فأنزل عليه عصارة فكره وجعله ينبض بالحياة؛ على مبدأ أن الأنسان يصنع الحياة ويبدع واقعه.
فبدأ تحفته الفنية بتفاحة وختمها بتفاحة، إلا أن احساسه يقول أن اللوحة لمَّا تنتهي مادامت الحياة قائمة، فهي تتسع مع اتساع الكون وتنبض بروح من فيها، لكنها لم تخرج من ظلمة قلم الرصاص إلى النور المنبثق من عيون ساكنيها.
"فواز عبد القادر" فنانٌ بالفطرة طافت معه "المفكرة الثقافية" في غياهب الفن فكان الحوار التالي:
*من هو "فواز عبد القادر" وهل يختلف كثيراً عن "فواز" الفنان؟
**على العكس تماماً لا يكاد يتمكن الذي يعرفني من أن يفرق بين شخصيتي الواقعية وشخصيتي الفنية، واستطيع القول إنني لا أستطيع أن أفصل بينهما، لذا تراني أعيش الحالة الفنية في كل مناحي الحياة، فحيث وجدت يتحول الحديث باللاشعور إلى الفن حتى لو كان من أتحدث إليه لا يفقه فيه شيئاً أو يعيره اهتماماً.
*على الرغم من قدراتك الفنية تعمل حلاقاً وتبتعد عن الرسم فهل ينطبق عليك المثل "سبع صنايع والبخت ضايع"؟
**أصبت عين الحقيقة أن هو ذاك؛ أنا لا أنكر أنني أعشق الفن حتى الهذيان، لكن الفن خذلني وما زال، لدرجة أنني أبيع فني فلا أجد من يشتريه، ربما لأن واقع المحافظة لا يميل إلى الحالة الفنية أو أن الواقع الاقتصادي يفرض نفسه على الإنسان؛ فتراه يجري خلف لقمة العيش مبتعداً عن هذه الجزئية التي أعتبرها مهمة لكل الناس، في المحصلة هو ما ترى أعمل في مهنةٍ تؤمن لي قوت يومي وأسعى أن أرسم لوحاتي في شعر الزبائن، ليس حباً فيها بل لأني لا أمتلك البديل.
*بالعودة إلى الفن هل يُعتبر الحائط الذي يحمل هذه اللوحة هو نهاية المطاف بالنسبة إليك؟
**في الحقيقة كاد الحائط - بدلالته الرمزية - على نهاية الطريق؛ أن يكون بداية النهاية للمرحلة الفنية في حياتي، لكن كان في داخلي قوة خفية تقارعه، محاولةً الالتفاف عليه مرة وتارةً تريد القفز من فوقه، إلا أنه كان قد أحكم سد الطريق، ولأنني أحب الحياة قررت أن أرسمها عليه.
*من أين أتيت بكل هذه الوجوه ولم كل هذا الازدحام في اللوحة؟
**هذه اللوحة عبارة عن كل الترسبات التي استقرت في ذاكرتي، كما أنها نتاج الخليقة منذ التكوين وإلى ما لا نهاية، لقد ضمنتها كل ما قرأت وسمعت وكان للمخيلة دورٌ كبير في صقلها وترتيبها، كما أن التفكّر في خلق الحياة ومفرداتها غالباً ما يقودك إلى المجهول، لماذا أتينا إلى الحياة؟ ولماذا سنغادرها؟ ولماذا كل هذا الشر الذي يعتري نفوس البشر؟ أسئلةٌ كثيرة لم أجد لها أجوبة فتركتها على الحائط لعل أحدهم يجيبني يوماً، أما الازدحام الذي تشهده اللوحة فهو راجعٌ إلى الحياة الأبدية التي لا موت فيها.
*كيف بدأت في هذه العاصفة الخلقيّة وكيف انتهيت؟
**البداية كانت سهلةً للغاية فاللوحة برمتها تحكي تسلسل الخليقة، فنقطة الانطلاق من أبوينا "آدم" و"حواء" عليهما السلام، ثم التفاحة التي أخرجتنا من الجنة تلاها القدم في أعلى الصورة التي ترمز إلى الهبوط الأول للأرض، ثم التكاثر ثم الأحداث والأساطير وبقية الحياة، اما النهاية فلا أستطيع ان اجزم أن هذه اللوحة ستنتهي يوماً من الأيام، إذ أنني لم أتمكن لهذا التاريخ من اسدال الستار عليها لأنها تأخذ مجريات الحياة، وعجلة الحياة لا تفتأ عن الدوران؛ ولو كنا نحن البشر الطحين الذي ينتج عن حركتها.
*المرأة نصف المجتمع إلا أنها أخذته كله في هذا العمل أو تكاد فما هو السبب؟
**المرأة عالمٌ آخر ففيها تكمن الحياة؛ ولأنها رمز الخصوبة والاستمرار، كان لها الحظ الأوفر لكن صورها تنوعت في هذا العمل، فهي ترمز إلى الخير والعطاء والخصب والحنان، وترمز إلى التوحش في صورٍ أخرى، ولأن وحشية المرأة لا تأتي إلا من بأسٍ شديدٍ يقعُ عليها؛ لذا حاولت أن أمزج صورتها مع الأسطورة.
*ما سر التفاحتين في هذه اللوحة ولماذا أخذتا زوايا اللوحة؟
**لا أدري لماذا تكررت التفاحة في هذا العمل مرتين، مع العلم أن التكرار مقتصرٌ على البشر، يمكن لأن هذه الفاكهة غيرت الحياة مرتين، الأولى في اخراجنا من دار السعادة إلى دار الشقاء، والثانية التي أنجبت قانون الجاذبية وغيرت مجرى التاريخ، أما الزوايا فجاءت تماشياً مع الزمن.
*مع هذه الكثافة السكانية في اللوحة ، لماذا لم نر للطفل حضوراً؟
**لا يمكن أن أصوِّر الأطفال إلا بالملائكة؛ ومع هذا التصوير لم أجد له مكاناً في هذا العالم، فقد وثَّقت الحياة الدنيا والملائكة لا يمكن أن تعيش بيننا، لذا آثرت أن أتركه في راحته السرمدية وأبعده قدر الامكان عن هذا الضجيج.
*تدَّعي حبك للحياة فمن أين جاءت كل هذه السوداوية؟
**لكل شخص جانبٌ سوداويٌ في حياته إلا أن كمية السواد؛ قد تختلف من شخصٍ لآخر، وكم الضغوط التي يعاني منها الإنسان في حياته اليومية هي من يحدد واقع المرء، ولأن الفنان يترجم بصدقٍ ما يعايشه من خلال الريشة، يكون عرضةً لفضح معالم حياته أكثر من الأشخاص العاديين.
*أخيراً، ألم تستطع أن تبث الروح في هذه اللوحة من خلال الألوان أم أنك اعتدت على هذا الظلام؟
**صحيح.. كنت أستطيع أن أجعلها تزخر بالحياة لو كنت رسمتها بغير الحال الذي كنت عليه، لكن "فاقد الشيء لا يعطيه"، هو أمرٌ نسبي لكن النسبة قد تكون مرتفعةً في مرحلةٍ ما، مع هذا وذاك ليس بالضرورة أن يترافق قلم الرصاص مع السوداوية، فلقلم الرصاص خاصيةٌ واحساس لا تتوافر في الألوان، ويمكن في مرحلةٍ من المراحل أن ترسم فرحاً غامراً به، وما عليك وقتها إلا أن تجيد التحكم في الظل والنور.