قصص قصيرة– مجلة الثقافة– د.كاظم الداغستاني
إعداد الدكتور مهيار الملوحي
صدرت مجلة (الثقافة) في دمشق في 5/4/1933، وهي مجلة شهرية جامعة، تبحث في الآداب والفنون والاجتماع والتاريخ والفلسفة وكانت غايتها نشر الثقافة العامة في بلاد الشرق العربي وخدمة النهضة الفكرية فيها، وجاء أن سنتها عشرة أجزاء، وهي مجلة مصورة، وقد أسسها وأشرف عليها خليل مردم بك وكل من د. جميل صليبا ود. كاظم الداغستاني ود. كامل عياد.
والدكتور كاظم الداغستاني (1898-1985) ولد في دمشق، وتلقى علومه الابتدائية في الكلية الشرقية في زحلة- لبنان ثم عاد إلى دمشق والتحق بالتجهيز، وانتسب إلى معهد الحقوق بدمشق، وحصل على الإجازة عام 1924، سافر إلى فرنسا والتحق بجامعة باريس وحصل على دبلوم ودكتوراه في العلوم الاجتماعية عام 1933، وشغل عدة مناصب رسمية ومارس مهنة المحاماة، وألف كتاب (حكاية البيت الشامي الكبير) الذي صدر عام 1972.
كما نشر العديد من القصص والدراسات الاجتماعية والأدبية في الدوريات السورية والعربية، ونشر له قصة قصيرة في مجلة (الثقافة) في العدد الرابع الصادر في تموز عام 1933، وكانت بعنوان:
(ابتسامة واحد)
"إذا فعائلة حميد بك تقضي هذا الصيف في المريجات لا في بلودان كما في العام الماضي".
قال ذلك علي بك الشاب المتأنق لصديقه حسن أفندي بينما كانت السيارة التي تقلهما من دمشق إلى صوفر تطوي المراحل الأخيرة من سهول البقاع ومروجه وقد أوشكت شمس العصر أن تتوارى وراء هضاب لبنان الخضراء الموشاة بما انتثر على قممها وفي أطرافها من تلك الدور البيضاء ذات التيجان الحمر، والتفت حسن أفندي إلى رفيقه الذي يجاوره فقال: نعم ولقد وجدت ابن عمك الذي قضى بضعة أيام من هذا الشهر في المريجات كثير الإعجاب بجمال شهيرة ابنة حميد بك فقد وفق لأن يراها ويتحدث إليها، قال علي بك إني لا أعرف كيف يرضى حميد بك بسفور ابنته كأنما لم يتصل به بعد ما تردده الناس من الأحاديث عنها وعن تفرنجها، فهي لا تحجم كما سمعت عن التحدث إلى كثير من الشبان ومعاشرتهم ويقولون أيضا أنها لا تتأخر عن شرب قدح من الشمبانيا إذا دعيت إلى ذلك ويقولون أيضا أفظع من هذا... ثم توقف عن الجري في حديثه كمن يود أن لا ينقل ما سمعه من أخبار السوء، فقال حسن أفندي: لا تصدق كل ما يقولون فأنت تعرف أن الناس عندنا يبالغون في النيل من كل فتاة خالفت شيئا من التقاليد القديمة ولقد آن لنا أنننصرف عن معاكسة سنن التطور فنترك لهؤلاء الفتيات المتعلمات في العصر العشرين عصر المدنية والنور شيئا من الحرية في انتخاب أزواجهن لا أن نحبسهن في البيوت حتى نبيعهن بيع السلع كما كان يفعل أجدادنا من قبل.
قال علي بك دعني من هذه الفلسفة العمياء التي لا أعرف شيئا أضر بنا منها فإذا كانت نتيجة تعليم الفتيات أن يصرن إلى ما صارت إليه شهيرة هذه من حرية وسفور وفرنجة فأنا أفضل أن يبقين جاهلات، وإن كانت نهضتنا لا تأتينا إلا عن هذا الطريق كما يزعم الكثيرون فأنا أفضل أن نبقى حيث نحن فلا نتقدم خطوة واحدة. فتنحنح حسن أفندي في مجلسه من السيارة وقال لرفيقه ضاحكا: يخيل لي أن في نفسك على شهيرة شيئا من الحقد والموجدة، فأنت تبالغ كثيرا في نقل ما تذكر أنك سمعته من الناس عنها فهل وقع لك معها من الحوادث ما دعاك إلى ذلك؟ ورأى علائم الغضب تبدو على وجه صديقه فأخذ بيده واستمر في حديثه دون أن ينتظر جواب سؤاله وقال: أما أنا فقد رأيتها مع الكثيرات من رفيقاتها في الصيف الماضي في منتزهات الزبداني وبلودان حيث كانت تسير سافرة الوجه فلم أجد في سلوكها وفي أوضاعها ما يدل على كل ما سمعته أنت عنها. قال علي بك وقد تكلف الهدوء والتؤدة: أي موجدة تريد أن أحمل في نفسي على فتاة لم أرها قط؟ فتفرنجها لا يهمني بشيء لولا أني أغار على سمعة العائلة التي تنتسب إليها، ثم أخشى أن تكون شهيرة هذه مثالا لبقية فتياتنا من بنات العائلات في سوء تصرفها بهذه الحرية التي منحها إياها ذووها... فأنا إذا اندفعت في القول فما ذلك إلا حرصا على روابط العائلة وحبا بالمصلحة العامة.
ورأى حسن أفندي أنه قد آن لهما أن ينصرفا عن هذا الحديث إلى غيره فنظر إلى ساعته وهو يقول: هاهي الساعة السادسة ولعلنا نصل صوفر أبكر مما حسبنا، قال علي بك، مجاوبا رفيقه فيما أراده: وهل ما برحت مصمما على أن نعود إلى دمشق في صباح الغد فنكتفي بقضاء الليلة في صوفر؟ قال لقد اتفقنا على هذا وليس بوسعنا أن نتأخر عن عملنا غدا في ديوان الوزارة ويخيل لي أن السهرة في الفندق الكبير ستكون مطربة تنسينا أعباء السفر.
خرج الصديقان من قاعة العشاء في الفندق الكبير في صوفر متأخرين، وهما أشد ما يكون تأنقا في ملبسهما وزينتهما وبعد أن تجولا في البهو والحديقة وتحدثا إلى الكثيرين من معارفهما دخلا إلى ساحة الفندق حيث انتشر جمهور من النساء والرجال حول مناضد متفرقة يصغون لنغمات الجوقة الموسيقية الجديدة التي شاء صاحب الفندق أن يتحف بها زواره في تلك الليلة، ولم يكد القادمان يأخذان مجلسهما حول المنضدة التي أسرع الخادم بإعدادها لهما حتى التفت حسن أفندي إلى رفيقه وكأنما فوجئ بما لم يكن يحسبه وقال له: ها هي شهيرة ابنة حميد بك، انظر إليها فهي بالقرب منا وها هي تنظر إلينا، وتكلف علي بك الرصانة وقال لرفيقه دون أن يلتفت وهل هي وحدها؟ قال لا.. بل معها بعض السيدات ولعلهن جئن من المريجات ليقضين السهرة هنا، والتفت بعد قليل علي بك إلى الجهة التي أومأ صديقه إليها ولم يكد يمر ببصره على السيدات الجالسات هنالك حتى عرف شهيرة وكانت أبرز الجالسات مظهرا وأكثرهن جمالا ونضارة، ورأته يطيل النظر إليها فانصرفت إلى إحدى رفيقاتها تسألها عنه وقد ذكرت أنها كثيرا ما رأته من وراء نقابها في شوارع دمشق وعرفت الكثيرات من قريباته، ولعلها علمت عنه ما زاد اهتمامها به فألقت عليه نظرة فاحصة مترددة، ورأى منها ذلك وهو جريء ما اعتاد أن يحجم في مثل هذا الموقف فنظر إليها نظرة إعجاب وهو يبتسم، فلم تتمالك هي بدورها من أن تبتسم له وقد أوشك الحياء أن يورد وجنتيها، ورأى حسن أفندي ماكان بينهما فأراد أن يصيبه ما أصاب رفيقه لكن راعه حينما رآها لا تأبه لشأنه فتنصرف بنظرها عنه إلى علي بك ثم تعود إلى حديثها مع رفيقاتها ضاحكة طروبة.
كانت الشمس قد ارتفعت عن مشرقها حينما أخذت السيارة التي تعود بالصديقين إلى دمشق تنساب في وادي بردى فتنقل إلى راكبيها نسمات عطرة تثير مكامن في النفوس من وجد وذكرى، وأهوى علي بك بيده على عضد رفيقه وهو يقول له: إنها أجمل وأرق بكثير مما كنت أظن، قال حسن أفندي وقد تجاهل ما رمى إليه صديقه: ومن هي هذه التي رأيتها أجمل مما كنت تظن؟ أجاب: شهيرة. وهل رأيت بالأمس أجمل وجها وأرشق قامة وأسمى قدرا منها بين جميع من كان حولنا من النساء؟ ثم ولا أخفي عنك فقد أعجبتني كثيرا هذه الرصانة البادية على محياها وتلك الدعة في نظراتها الفاتنة التي تدل على ما انطوت عليه نفسها من شرف الخصال وكرم الخلق وحسن التربية، فبلع حسن أفندي ريقه وتكلف عدم الاكتراث بما يسمع ثم قال: لا أكتمك أنه لم يرق لي كثيرا أن أجدها سافرة في مثل هذه الأماكن وليس معها إلا رفيقات لا أعلم من أين جاءت بهن، معاذ الله أن أكون من المحافظين المتعصبين ولكن يؤلمني جدا أن يقول الناس عنها أقاويل شتى وهي تنتسب لعائلة شريفة أغار عليها وعلى سمعتها، ثم لا أعلم إلى أين ستفضي بنا وبنسائنا هذه الحرية التي بدأ الآباء يمنحونها بدون وزن ولا حساب لبناتهن المتعلمات علما ناقصا، وكأن هذه الكلمات أثارت حماسة علي بك فاندفع يقول وفي لهجته شيء من الحدة: أما أنا فلم أجد في موقف شهيرة بالأمس ما يمس بسمعتها أو بسمعة عائلتها كما تدعي ولقد آن لنا أن نخرج من هذه الظلمة التي نحن فيها فنعد للمستقبل أمهات عارفات بشؤون الحياة لا غريبات عن العيش الذي نعيشه، ثم ماذا يمنع نساءنا أن يسفرن ويحضرن معنا الحفلات ويستفدن من كل ما نستفيده نحن، وإني لأفضل زوجة كشهيرة متعلمة راقية عارفة بحوادث الأيام وتصاريفها على فتاة غبية لم تر في حياتها إلا جدران منزل أبيها ولا تصلح إلا لما اعتدنا أن نراه من خصائصها، ثم إن الأمر لا يتعلق بشخص شهيرة الذي لا يهمني بل إن هناك مصلحة عامة هي أعنيها في حديثي فلا نهضة لنا ترجى ولا خير يؤمل منا إذا لم نعلم فتياتنا ونترك لهن حريتهن أسوة بغيرهن من نساء الأمم القوية الحية. فقهقه حسن أفندي وكأن ضحكته هدأت ما أثار في نفس رفيقه الذي أردف يقول وهو لا يستطيع إخفاء ما تبدى من تقلبه: وماذا يضحكك؟ قال أرى أن ابتسامة الأمس قد غيرت مبادئك وآرائك في حرية المرأة وفي المصلحة العامة، أجاب وأنت؟ أليست ابتسامة الأمس نفسها هي التي غيرت مبادئك أيضا؟ وأخذ الرفيقان بأيدي بعضهما واستمرا يقهقهان في ضحكهما.... ومضت السيارة في طريقها على ضفاف بردى متجهة إلى مدينة دمشق ذات الأنهار السبعة والظلال الوارفة حيث كثير من المبادئ العظيمة تغيرها ابتسامة واحدة.