قصص قصيرة- محي الدين صبحي (العجان)
هو محي الدين صبحي العجان (1935-2003) وقد عرف في عمله الصحفي والأدبي بمحي الدين صبحي، ولد في دمشق وتلقى علومه الأولية فيها وتخرج في كلية الآداب- جامعة دمشق- عام 1957، وحصل على دبلوم في التربية عام 1959، حاز الماجستير في الآداب من الجامعة الأميركية في بيروت عام 1979، عمل في الصحافة السياسية والأدبية وترأس تحرير مجلة المعرفة التي تصدر عن وزارة الثقافة من عام 1963 إلى عام 1977، وحرر في مجلة الموقف الأدبي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق بدأ بالنشر منذ عام 1954 في مجلة النقاد الدمشقية لصاحبها فوزي أمين وفي مجلة الآداب البيروتية لصاحبها سهيل إدريس له العديد من المؤلفات والدراسات الأدبية والقومية.
وقد نشر محي الدين صبحي القصة القصيرة في بعض المجلات وهي نادرة ولم تجمع في كتاب ومن هذه المجلات مجلة (ليلى) وهي مجلة نسائية، فنية اجتماعية تصدر في دمشق صباح كل سبت، وكان صاحب امتيازها ورئيس تحريرها الدكتور هشام فرعون.
وقد كتب محي الدين صبحي في العدد (16) الصادر في 9/3/1963 قصة قصيرة تحت عنوان (جامعيون):
طالت العطلة على نفس هشام.. وقد حاول منذ اليوم الثالث أن يتصل بفدوى دون فائدة.
إلا أنه بعد أيام لمحها في السينما مع أختها الكبرى، ووقف يتأملها حين خرجت: كانت هيفاء رشيقة ممتلئة الصدر ملفوفة الساقين وكان يبدو أنفها البارز لطيفا في وجهها المتفتح المملوء بسمرة خمرية، وقد جهد هشام في أن يشق طريقه حتى حاذاها ومسها بكتفه مسا رقيقا ثم تجاوزها خطوة والتفت بنصف وجهه فرآها تبتسم وتحمر وهي تومي إليه بسلام فرد التحية وسار وهو يحس أنه محمول بجناحين خفيفين من خدر ورغبة، وترك لقدميه أن ينقلا جسده إلى حيث شاءتا، أما عينيه فكانتا تلمحان الناس دون أن تتبينا شيئا من ملامحهم.
كان متعبا من الدراسة إلا أنه لم يرغب في أن يجتمع بأبناء حارته... فقد شعر أنه بدأ يملهم ويغترب عنهم، وقد بدأ هذا الشعور في نفسه منذ أن افترقوا في الدراسة الثانوية فتخصصوا في الدراسة العلمية وتخصص هو في الفرع الأدبي لذلك خالف الطريق الذي يجتمعون فيه وسلك دربا خلفية توصله إلى بيته دون أن يجمعه بأحد، وما إن دخل الدار حتى بادرته والدته تقول:
أهلا لو اعرف أنك ستأتي مبكرا لذبحت لك خروفا، وأجابه أبوه: الساعة التاسعة والنصف وتقولين أنه مبكر!
فقالت: العاشرة أفضل من الواحدة! والتفتت إلى هشام تسأله: كيف حدث أن تركت أحباءك طارق وصالح وعبد الغني؟
نحن ربيناك كي تنسانا وتذهب إليهم... تذكر أن لك أما وأبا نحن نسهر قلقين ننتظر عودتك كل يوم..
وقاطعها أبوه: هشام لا يتذكرني إلا في دفع القسط وشراء الثياب وقبض مصروفه الشهري..
وأحس هشام أنه محاصر ولم يطق السكوت فقال: لا أدري ما تفيدون إذا بقيت معكم.
فقال أبوه متهكما: نريد أن نستأنس بك.
فأجابه هشام بزفرة ظاهرة: بل تريدون أن تجعلوني سمكة في علبة سردين، ماذا يضركم سهري أو ذهابي في النهار ما هذه الأسئلة الشخصية التي تطرق رأسي كل يوم: ماذا فعلت؟ أين كنت؟ مع من ذهبت؟ لماذا تأخرت؟ هل أنا في بيت أم في مخفر؟...
وأسرع إلى غرفته وسمع أباه وهو يصفق باب غرفته يقول له: طول بالك سبحان الله في طبعك...
إلا أنه كان ثائرا يتهدج صدره ويسرع قلبه بالنبض أمسك برأسه حين جلس وأحس أنه يعيش في ظلام.كان مقتنعا في قرارة نفسه أنه غير محق في غضبه، لأن الموضوع قديم وقد تعود دائما أن يدير المناقشة بشكل ضاحك وينهيها بنكتة.
كان يزداد ضيقه بهذا الحديث يوما بعد يوم، إلا أنه كان لا يلتفت إلى أحاديث أهله ما دام يفعل ما يشاء، وفيما كان يلوم نفسه دخل أخوه الصغير وأخته إلا أنه لم يكن يرغب في الحديث لولا أن أخته أصرت عليه بأن يخرج ويعتذر، فخرج معهما لسبب واحد، هو أنه لا يريد أن يظهر أمام أخويه بمظهر المتمرد وجلس صامتا برهة مع أبويه يستمع إلى الراديو ويقلب صفحات مجلة نسائية، ولم يلبث أبوه أن سأله عن مسموعاته عن الوزارة الجديدة، وحاولا أن يتنبأا بمدة حياتها... ثم تحدثا عن الصيف وشكا أبوه من أنه لن يستطيع أن يذهب بهم إلى المصيف... وأخيرا سألته أمه إن كان يرضى بإعطاء بعض كتبه القديمة لجيرانهم الذين يطلبونها لابنتهم وغمز أبوه أمه حين قال:
- أظن أن هشام يود أن يدرسها كتبه بنفسه.
- فأجاب هشام: الله يبارك لكم فيها، إنها مثل (الزلقطة) خصرها رفيع وردفها منخفض.
وقالت أخته:
- إنها متصنعة، وتخلط حديثها بكلمات فرنسية لتذكرنا دائما أنها تدرس في الفرنسيسكان.
وشارك أخوه الصغير في الدس عليه فقال:
- معلوم يا بابا من يدخل الجامعة يرفض بنات حارتنا، أنا أريد أن أعمل مع ابن عمي في تصليح السيارات، ولن أضيع وقتي بالتسكع بين أربعة جدران بحجة أنني أدرس.
وانتهت السهرة في الحادية عشرة، وذهب هشام وأخوه إلى غرفتهما ليناما، وسرعان ما أغفى هشام لكنه مالبث أن وجد نفسه مع فدوى في أرض فلاة يسيران جنبا إلى جنب ووراءهما غابة فيها حشد كبير من الفتيان والفتيات، كانوا يشعلون النار في الأحطاب، أما هو وفدوى فقد يمما شطر الجبل يريدان أن يصعدا للحصول على الثلج.
ووصلا إلى بقعة معشبة يعلوها جدار مسطح وفي وسطه صخرة ناتئة، عليهما أن يتسلقاها حتى يصلا إلى القمة، قال لها: - سأرفعك حتى تصعدي.
فترددت..... سألها: - مابك؟! هيا.
أجابته: - إنني لا ألبس بنطالاً بل تنورة عريضة.
فاقترب منها وهويقول: - الدنيا ظلام.
وحملها محاولا أن يرفعها بالقوة، فقاومته ووقعا على الأرض فاستيقظ.
حين أفاق كان جسده يرتعش وهو يلهث ويتقلب في السرير ويداه تلتفان حول المخدة الطرية كأنه خصر فدوى.