قصص قصيرة نشرت في الصحافة السورية – مجلة ليلى- قمر كيلاني
نشرت مجلة (ليلى) وهي مجلة نسائية فنية اجتماعية صدرت في دمشق عام 1962 قصة قصيرة بقلم قمر كيلاني في العدد السادس الصادر في 23 كانون أول عام 1962، وقمر كيلاني ولدت في دمشق وتلقت علومها الأولية فيها، وهي مجازة في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب بجامعة دمشق ومدرسة في ثانوياتها. صدرت لها مجموعة قصص تحت عنوان (عالم بلا حدود) عام 1971 في بيروت.
وقصتها القصيرة التي نشرت في مجلة ليلى كانت تحت عنوان: (الكنز)
()كان عمي من صنف الرجال الذين لم يعرف الاستقرار إلى حياتهم سبيلا، كثيرون من هؤلاء نراهم حولنا، في مجتمعنا قد ابيض شعرهم دون أن تجمعهم حياة زوجية تحت ظلها الظليل، وهم أنيقون متأنقون، منبسطو الأسارير والأيدي معاً، مقبلون على الحياة وقد تجاهلوا أنهم رموا وراء ظهورهم خمسين أو أربعين عاماً على أقل تقدير، وفي انبساطهم للحياة وإقبالهم عليها وعلى لذاتها شوق الشباب الطافح العارم، والنساء أمام هؤلاء الرجال مشدوهات دائما بعيون يشع منها البريق، عيون لم تطفئها هموم الأسرة، معجبات بأحاديث لا تكل ولا تمل وكل واحدة منهن ترى فيه خيطاً من الحماس قتله الملل عند الأزواج، ولا يدخل أحد هؤلاء مجلسا إلا ويسبقه رصيد كبير من تعلق الناس... واهتمام الناس.. وحب الناس أحياناً.
هذا الجانب الوضاء من حياة عمي جعله يتغلب على مأساة كانت تكمن في حياته العائلية إن صح أن نسميها عائلية فعمتي عانس حيزبون تسلق عمي كل صباح بأسئلتها الحارة المحرجة وهزئها الساخر العنيف وتؤذيه بل تجرحه بنظراتها النافذة وقوارص كلامها: غيرنا يفرش السجاد وننام نحن على الحصير.. أمثالك أصبحوا على التقاعد وزوجوا أولادهم... العزوبية طالت يا أخي، وأنت من أنت؟ رجل فقير الحال، فقير القلب، لاعمل ثابت ولا استقرار، عالة على امرأة مسكينة مثلي. لا أحد يقدم لك شيئا سواها حتى فنجان القهوة.
وعمي-رحمه الله-يضحك ويجعل من ذلك مادة للتندر والنكات العجيبة: من أين كنت سأحصل على صحبة مثل صحبتك يا أختي العزيزة لو تزوجت؟ أتراني سأطالع هذا المحيا الجميل كل يوم؟ أنت عندي أحلى امرأة.... كل النساء لا يساوين قلامة ظفرك، الفقر إلى جانبك غنى، أعطني قبلة من يدك. وكانت عمتي تنهي معركتها اليومية بضحكة مكتومة ترتسم على وجهها المتعفن وقد تنهيها أيضا بغضب مصطنع تصفق معه الباب بشدة حسب مزاجها اليومي، على أن عمي بدأ يضيق آخر الأمر ذرعا رغم أنه لم يحاول قبلها أن يشكو أبداً، وغدا لا يلجأ كثيراً إلى البيت ولا يزورنا- نحن أحباب قلبه كما يقول- إلا نادراً.
وكان يظهر ميل إلى الضعف والدعة والتعب ويبدو أن القدر كان ضد عمي حتى يصل به إلى نهايته السريعة المفجعة.
بدأ المرض يتسلل إلى الجسم الرياضي الجميل ويطفئ النظرة المشرقة ويمسح الشفاه المتقدة، ولعله بدأ يشعر بضيق الحياة التي يعيشها، ويحس بحنين إلى حياة طبيعية. كان أشبه بطفل يتيم يفتقد الصدر الدافئ والعش الحنون وعمتي لم تتعظ من الماضي بأنها فقدت أهلها جميعا وستبقى وحيدة إن خسرت عمي، لم تشعر بالمرارة التي كان يعيش بها، لم تقدر ظروف مرضه وألمه النفسي فغدت أكثر ضراوة وقسوة، وبدأت تحمل عمي تبعة شقاء حياتها كلها، واندثار آمالها كلها، وترى في القيام بخدمته ضريبة فادحة تؤديها كل بنت لأهلها إذا لم تتزوج، وضيقت الخناق على عمي تريد أن تخدمه متى تشاء هي لا حين يشعر بالحاجة هو، وهي تفاجئه بأوقات متوالية لترى هل يخدعها؟ وهل يمكن أن يقوم بحوائجه الضرورية؟ ومرة يا للقدر الساخر! دخلت عمتي الحجرة فجأة فوجدت عمي يتأمل شيئا في علبة جميلة وعلامات اهتمام تطفح على وجهه ارتعد لدخولها.. وأخفى العلبة ولم تعد تراها أبدا، خاطر عجيب مر في ذهن عمتي: أن أخاها يملك كنزاً وهو يخفيه عنها لا يريد أن ينفقه في سبيلها ويوفر عليها حياة المشقة، يريد أن يعطي الكنز لامرأة مجهولة يحبها، يا لحظها النفيس! هذا جزاء خدمتها له خمسة وعشرين عاماً؟ وغدا خيالها يضيف كل يوم شيئاً جديداً إلى الأمر، ماذا لو أنفق أهذا المال؟ ألا يستطيع أن يستأجر ممرضة ليلية ترفع عنها عناء السهر؟ لقد رأت بعيني رأسها أوراقاً، إنها أوراق نقدية، ورأت شيئا أصفر يبرق، إنه ذهب وهاج، ولما صارحت عمي ببعض هواجسها تألم ألماً بالغاً وأدار وجهه نحو الجدار، وهو يصر على أسنانه ويقول:
- يا أختي لا شيء البتة، أنت تعرفين أنني أنفقت كل ما أملك وما ادخرته على وشك أن ينفد، من أين لك هذا الظن؟
ويا ليت عمتي حدثته بما رأت لخفت المصيبة، وهان الأمر، ولكنها صمتت وغدت شرسة لا تطاق بسبب العلبة، وما رأت فيها، مال... كنز... أوراق نقدية ولولا احترامها لحق الأخوة ورهبتها لهول المرض لانقضت كهرة متوحشة تنبش عن هذه العلبة السحرية وتسلب ما فيها، إنها تسهر وكلها آمال تتحين الفرص الصغيرة.... وعمي يلاحظها بوجوم محموم ولا يستطيع أن يدفع عنه هذا العذاب.
ظل الأمر على هذا الحال، صراع غير منظور، وعراك نفسي طيلة شهرين اثنين، وليلة أن ساءت صحة عمي كان المطر ينهمر بغزارة والريح تقصف وتزأر بشدة وراء النافذة المتخلعة وتدق الباب دقاً عنيفاً، كانت عمتي ساهرة عين تنفتح لأقل همسة وعين تقاوم والعلبة فوق رأس عمي لا تجرؤ على الاقتراب منها، دافع أقوى من أي شعور إنساني يدفعها، أن تقوم وتفتح النافذة.
مسكين عمي، جرفت العاصفة العلبة وجرفته أيضا، في الصباح، والعاصفة على أشدها انفتحت العلبة وأغلق عمي عينيه إلى الأبد.
لم يكن في العلبة كنز ولا مال ولا أوراق نقدية كان بها رسائل رقيقة وتذكارات من محبوبة عزيزة وخصلة من شعر أشقر ذهبي.