قصص قصيرة – مجلة (الرائد العربي) أحمد اللبان
صدرت مجلة (الرائد العربي) الثقافية الفكرية في حماة في كانون أول عام 1954، وكان صاحبها ومؤسسها أحمد اللبان.
جاء أنها مجلة نصف شهرية تصدر شهريا بصورة مؤقتة، وكانت من الحجم الكبير (28×20)سم، وذات غلاف من الورق الأبيض، وعدد صفحاتها (32) صفحة، ومن أبوابها: (من تاريخنا البعيد) و(من الأدب الغربي الحديث) و(دنيا المرأة) و(معرض الكتب) الخ...
وقد استقطبت المجلة العديد من أقلام الكتاب والأدباء والشعراء والنقاد والتربويين، من كافة مدن سورية ومن بعض الدول العربية، ومن أقلامها: الصحفي المعروف أحمد سامي السراج والتربوي عمر يحيى وقدري العمر وبدر الدين حامد ووليد قنباز وعارف قياسية ومحمد روحي فيصل وعيسى الناعوري وعبد الرزاق البابا وسليمان عيسى ونذير الحسامي ونزار قباني ومنذر شعار ووجيه البارودي والدكتور نقولا فياض وادوارد حشوة وغيرهم.
ولد مؤسس وصاحب المجلة أحمد اللبان في حماة عام 1922 وهو مجاز في الحقوق من جامعة دمشق، وعمل مفتشا في مصلحة الميرة وترأس بلدية حماه عام 1952- 1953 وعمل في مهنة المحاماة وفي الصحافة الأدبية.
ومن بين أقلام مجلة (الرائد العربي) نجد اسم الدكتور عيسى الناعوري وهو أديب أردني ولد قرب عمان عام 1918 وهو الذي نجد اسمه في معظم الدوريات العربية والسورية الثقافية، إذ إنه دأب على نشر المقال والنقد والشعر والقصة والرواية، وقد أصدر في عمان عام 1952 مجلة (القلم الجديد) الشهرية الأدبية، وترجم الأدب الإيطالي إلى القارىء العربي، وترجم الكثير من الشعر والأدب العربي إلى اللغة الإيطالية، وله الكثير من المؤلفات الأدبية والقصص والروايات واهتم بأدب المهجر، وله العديد من الأحاديث الإذاعية، وقد كتب قصة قصيرة خصيصا لمجلة (الرائد العربي) في العدد الثاني الصادر في حماة في نيسان عام 1955، وقد جاء أنها أقصوصة فلسطينية، كتبت لمجلة الرائد العربي تحت عنوان (جاء دورها....)
(كانت الثورة عاصفة جامحة في كل مكان من بلاده، والنيران تندلع بلا انقطاع، في الجبال والسهول، وعلى الطرق العامة، وفي قلب المدن والقرى، وقوافل السيارات العسكرية المصفحة التي تسير لحماية المواصلات اليهودية تتطاير هي والسيارات اليهودية المخفورة في الفضاء وتتناثر قطعا بفعل الألغام والمتفجرات التي يبثها المجاهدون في كل مكان، وبفعل القنابل اليدوية التي يقذفونها عن جوانب الطرق والثورة تلتهم في كل يوم ضحايا جديدة ولكنها تطلب المزيد، والبطولات تزداد يوما عن يوم، والرجال المناضلون يجرون وراء الموت والشهادة راضين مغتبطين.
شهور متوالية تمر وجبل النار يصنع المعجزات، ويقول أبناؤه المجاهدون لجيوش بريطانيا والجبناء اليهود: لن تمروا إلا على أجسادنا...
يرى حماد كل ذلك في قريته وفي كل القرى الأخرى من حولها، ولكنه لم يشترك قط في معركة، إنه لم يحمل السلاح قط ولا يحسن استعماله، ويبتعد ما استطاع عن القتال وعن ميادين المعارك، لكنه كان يعتذر بأن الجهاد أنواع فمنه الجهاد بالنفس والسلاح، والجهاد بالمال، وإذا كان غيره يجاهدون بأنفسهم فيخوضون بسلاحهم المعارك، فإنه هو لا يصون ماله عن وطنه وحاجات الجهاد فيه، وهو لا يشك في أن الله لن يبخل عليه بأجر المجاهد مادام يبذل ماله في أغراض الجهاد.
لقد كان حماد غنيا، وكان لوالده بيارة برتقال في أراضي طولكرم وأرض زراعية واسعة في الغور، وكان من دخلهما في يسر ورفاهية... ولم يكن حينما نشبت الثورة يتجاوز التاسعة والعشرين من عمره، وكان قد أنهى دراسته الثانوية في القدس منذ سنوات، وعاد يعمل مع والده في إدارة أملاكه، وكثيرا ما كان قبل الثورة ينطلق إلى حيفا ويافا وتل أبيب والمستعمرات اليهودية العديدة المتناثرة على الساحل الطويل، وكثيرا ما مدت له أحابيل الإغراء لشراء أملاك والده كما مدت لآخرين سواه، ولكن حرص والده الشيخ وحذره كانا ينجيانه من تلك الحبائل التي طالما وقع فيها شبان وشيوخ آخرون فخسروا كل شيء، وهانوا على أنفسهم وعلى الناس.
في القرية كان لحماد ابنة عم جميلة اسمها (صفية)، وكان يحبها منذ مدة طويلة، وهو ينتظر منذ سنتين أن تقف الثورة ليعقد قرانه عليها، والثورة تتمادى في الطول وفي العنف، وكان حماد يريد أن يطمئن إلى الفوز بصفية، والتقى بها خارج القرية وهي عائدة من الجبال وقد سبقت رفيقاتها، وبيدها جونة فارغة كانت قد حملت فيها الزاد إلى المجاهدين، فمضى حماد يحث خطاه خلفها وهو ينادي صفية... صفية!، فالتفتت صفية إليه وقالت: لو أنك كنت رجلا لوقفت أرد على تحيتك.... تهرب من لقاء الرجال في ميادين البطولة..... بينما يتقدم زملاؤك إلى الشهادة كالأسود، وأنت قابع في بيتك لا تجرؤ على حمل السلاح في وجه أعداء وطنك... دعك من صفية... الميدان أمامك، وتعال بعد الثورة لتجد صفية تفتح لك ذراعيها.
وفي اليوم الثاني مر حماد ببيت عمه وهو يحمل بندقيته، وقد تجند بثلاثة أجندة من الرصاص على صدره وفي وسطه، فلما رأته صفية تفرجت شفتاها عن ابتسامة الرضى والغبط.
وفي أول معركة اشترك فيها حماد في مساء ذلك اليوم نفسه استبسل استبسالا رائعا، لقد كان في مقدمة المعركة، وكان حماسه بالغا أقصى شدته، وحين تطورت المعركة إلى اشتباك مع الجنود البريطانيين بالسلاح الأبيض كان حماد أول المهاجمين ولكنه ما كاد يهوي بخنجره على أول جندي يقابله حتى أحس برمح في رأس بندقيته يخترق أحشاءه ثم تلى ذلك رصاصة من البندقية نفسها تمزق أحشاءه.
وفي الصباح وصلت أنباء المعركة وجثث شهدائها إلى القرية وركعت صفية بجانب جثة حماد، ولكنها لم تذرف الدموع، بل سألت عن بندقيته، فلما تسلمتها نظرت إلى الشهيد الممد أمامها وقالت: لقد انتهى دورك وجاء دوري الآن...)