"كرو سليمان": "عباد الشمس" نور يبصرني الجمال
علاء الجمّال:
"كرو سليمان" فنان تشكيلي سوري، ولد في منطقة "سفر" عام/ 1964/، عشق الطبيعة والزهور، فكرس لها اهتماماً وجهداً في التشكيل، عانى من صعوبات العيش والفقر لما يزيد عن 29 عاماً، منطوياً على نفسه في قبو مظلم حوله إلى مرسم ومكان للتقشف والصفاء، تحدى الواقع، فانطلقت أعماله إلى العالم.
المفكرة الثقافية التقى الفنان "كرو" بتاريخ 30/1/2009 في حديقة "السبكة" "بدمشق" وأجرى هذا الحوار متعمقاً في آماله وهواجسه…
ــ توحي لنا أعمالك بالاغتراب نحو مسارات الصوفية و تجليات البصر، فماذا تقول في ذلك؟
الماضي… ذاكرة الحنين والشوق إلى الطفولة والذكريات… إنه مغتربي عبر مطافات البصر والخيال، دائماً أقول: طفولتي أجمل حياة عشتها ببراءة وصدق، ولن أنسى رياض الطبيعة الآسر الذي زينها بالبهاء، ولو عشت 100 سنة سأبقى "كرو" الذي ولد في قرية "سفر"، وحمل منها تلك الصفات…
الإنسان عندما يكبر، قد يأخذ من الواقع أموراً خيرة وربما سيئة، فتتغير نفسه وتتبدل مشاعره وأحاسيسه… بينما أنا لم تتغير نفسي ومشاعري لم تتبدل رغم ترديات الزمن الذي أعيشه، وسأبقى أينما كنت ذاك الطفل البسيط، المحمل بالسكينة والبراءة والصفاء…
عندما أرسم لوحة أشعر أنني وهيا الوحيدين في رحاب الكون، فتبدأ مفردات الشوق والحنين بالسريان على سطحها، متغلغلة في جزيئات اللون، متراقصة على أنغام "البزق والناي"، ومقطوعات من موسيقى التراث الكردي القديم، للفنان "ابراهيم طاطليس"، أسمعها فيطوف عقلي بين مسارات النور فأرى الطبيعة في حدائق خيالي البعيدة، وأحسّها كما لو أنني ألمس غصناً أو زهرة أو ورقة خريف متساقطة عند جذع راسخ فيها.
ــ قلت في أحد محاوراتك: « الفن هويتي التي حرمت» فهل توضح لنا ذلك؟
أيما إنسان يخلق على الأرض، يحمل جنسية المكان الذي ولد فيه، بينما "كرو" نشأ دون جنسية تشير إلى وجوده، وتمنحه الشعور بحريته، ما قيمة الحياة دون حرية؟ ألم وقهر وتشرد… وماذا بعد؟ لذلك ليس لي سوى أعمالي إنها هويتي وجواز سفري، إنها تقطع المساحات والحدود… بينما أنا أبقى مكاني حائراً وقلقاً، لا أستطيع السفر لأي مكان من هذا العالم، لست وحيداً، لكن الصعوبة أن يعيش المرء مجهول الهوية؟
ــ ما المعايير التي يجب أن يتحلى بها الفنان الحقيقي بالنسبة إليك ؟
لطالما قلت: قبل أن تكون فناناً يجب عليك أن تتعلم كيف تكون إنساناً، يحمل الحسن والصفات الحميدة… من هنا يتوجب على الفنان الحقيقي أن يحمل قلب طفل بريء، وليس قلباً مليئاً بالأشواك… البريء صادق لا يعرف الخبث و الحقد والخداع… في مجتمعه قدوة للناس، مثال بإنسانيته وتواضعه، وحزمه الصارم في التأنيب والعقاب عند وقوع الخطأ.
ذاكرة وصور
ــ "عباد الشمس" محور هام تجسده عبر أعمالك، ما السر خلف هذا الانجذاب؟
"عباد الشمس" الزهرة الوحيدة التي كنت أزرعها مع أبي على محاذاة سياج بستاننا في قريتي "سفر"، فأينما توضّع وجه "الشمس" اتجهت إليه، وعانقته بدفء ولطف.. مشهد سحر عيني وأحيا قلبي، وبما أنني محروم في مرسمي الضيق من "الشمس"، التي أعتبرها حريتي رأيت وجهي في زهرة "عباد الشمس"، فدخلت الروح والمحبة جسدي، وانطبعت لغتي على لساني، وأصبحت الزهرة نوراً في عيني أبصر به الجمال، إنها تعوضني عن الحرية التي حرمت منها منذ ولادتي.
ــ رسمت الطبيعة و الزهور وفق واقعية "كّرو"، صف مكنونات هذا المذهب الذي اخترته لإبداعك؟
وسعت معرفتي بكل المذاهب الفنية الحديثة ، متسائلاً: لماذا يتأثر الفنان بالمذاهب الغربية، مبتعداً عن واقعه وإبداعه؟ لماذا لا يبدأ من مكانه يشاهد ويرسم أهم ما يراه ويثيره، ويحدث أسلوباً ومذهباً خاصاً به؟
رسمت على مدار خمسة عشر عاماً بقلم الرصاص، وعلى مدى عشرين عاماً أخرى بالألوان الزيتية، رسمت في الطبيعة والورود… جسدت أجمل ما استطعت على أسقف المنازل والجدران… وفي النهاية وصلت إلى رسم لوحة فاتنة الشكل بأسلوب جديد أسميته واقعية "كرو"، وبعد المعرض الذي أقمته وفق هذا الطرح قال لي أحد الفنانين: «من يرى أعمالك يعجز عن تقليدها» وهذه شخصيتي التي أريد.
في الطبيعة رأيت الزهور والريحان والسحر… اختزنت ذاكرتي الصور لأعيد رسمها بدفء حسّي، وليس تقليدها كما هي في واقعها، إنها في ناظري المحبة والديمومة والشفاء… إنها براءة طفل يحتاج إلى عناية وصون، إنها حسنٌ يزداد تألقاً وجمالاً كلما أحسست به.
ــ هل اكتفيت بذلك؟
لا، فقد كونت أسلوباً تعبيرياً خاصاً بي، أضيف إليه أشياء جميلة في كل معرض أقيمه، وبدايتي معه كانت بعد معرضي "كرو والصيف المحترق"، أثنائها رسمت لوحيتن بألوان بنفسجية مباشرة على القماش، الأولى عن أطفال بلدة "حلبجة" في العراق" عندما تعرضت للقصف، والثانية أيقونة للسيد "المسيح"، والعملين فارقاني إلى أماكن مختلفة.
ــ ما الذي جذبك إلى"الأيقونة"؟
نورها وتأثيرها في النفس، فالشيء الذي سمعته عن السيد "المسيح"، أنه رسول‘ المحبة والحرية والسلام… فرسمت وجهه محاطاً بالنور، لكن بتعبيرية "كرو" وليس بأسلوب الفنانين الغربيين.
ــ تتميز بعض أعمالك باللون البنفسجي وتدريجاته… ماذا عن الإيحاءات التي يوصلك إليها هذا اللون؟
البياض في سطح اللوحة يسيطر أحياناً على الفنان فيجعله فريسة للتوتر والقلق، وأنا أسيطر على مدى البياض في لوحتي، فيغدو اللون بين يدي وليداً لومضة التفكير، وعندما أبدأ في رسمها يخرج اللون "البنفسجي"، ليصحب يدي وهاجسي إلى تكوين مختلف عما رأيت وحددت، ربما لأنني وحيد ومحاط بالسكون… اللون "البنفسجي" له امتداد في عالمي ومتخيلي، وتصوراتي اللامحدودة للزمان والمكان، يلامس شعوري المتوالد ليصبح ظله في عملي التشكيلي.
الوجود والمصير
ــ "كّرو والصيف المحترق" أول معرض فردي أقمته في ثقافي "أبو رمانة" "بدمشق"
عام/ 1994/ هل لك أن توجز لنا خصوصية هذه التجربة؟
منذ زمن بعيد هاجر جدي وأسرته من "تركيا" إلى "سورية"، وبعد ولادتي هاجرت من قريتي "سفر" إلى "الحسكة" ومنها إلى "الشام"، وخلال /29/ عاماً من التشرد والوحدة كنت أقرأ الكثير عن مآسي الأكراد وأتأثر بها، وأسرت مخيلتي أعمال المخرج السينمائي العالمي "يلماز كولي"، الذي تحدث عن مأساة الشعب الكردي في "تركيا" خلال فترة من الزمن، كيف يعيشون في الجبال وسط الظلم والاضطهاد… وفي معرضي هذا مازجت دموعي مع ألواني الزيتية، لأني اقتبست تلك المأساة وجسّدت جوانب مختلفة منها، ستبقى محفورة في ذاكرتي ما حييت.
ــ هاجمتك خلال معرضك الأخير الذي أقمته في صالة "السيد" "بدمشق" العام /2008/ آراء نقدية حادة، ما تقييمك لها؟
الآراء النقدية لا تزعجني مهما بلغت حدتها، فلولا وجودي القوي في لوحتي لما تعرضت إلى النقد، وإنما تفاوت الآراء يحير الفنان، فبعضها لا يحمل وجهاً صحيحاً وحساساً في الكلمة، وبعضها يرسو فوق القشور، وبعضها الأخر يدخل في العمق، وهذا مانحتاجه، أما أنا فأرسم لوحتي لذاتي، وليس رغبه في إرضاء الآخرين.
ــ لا زال مصيرك محتجباً بالغموض، فهل ترتأي مراحل معينة تود الوصل إليها؟
أن أعيش إنساناً حراً قبل كل شيء، و أشعر بوجودي كبقية الناس، ومن جانب الفن سأرسم المآسي الإنسانية أينما وجدت كذلك الطبيعة والزهور، وسيبقى مصيري غامضاً، لأن بدايتي مع كل لوحة تشعرني أنني في ولادتي الأولى.
ــ "دمشق" ماذا قدمت إليك خلال تسعة وعشرين عاماً الماضية؟
أحببت الجزيرة في "الحسكة"، و"عفرين" في "حلب"، وأحببت "دمشق" أكثر رغم كل العذاب والشقاء الذي واجهني بها، إلا أنها ستبقى في ذاكرتي وهجاً يلتمع كلما حركت مشاعري صورة فاتنة من صورها وطبيعتها، في بلدة "سفر" وقفت على قدماي، وفي صالة "السيد" "بدمشق" وقفت للمرة الثانية وخلفي أعمالي ورؤاي، العام الماضي صوّر عني فيلم وثائقيً لصالح قناة عراقية، وفي الأشهر القادمة سيقام لي في مدينة "السليمانية" "بالعراق" معرض شخصي سأهدي فيه أعمالي إلى الأطفال المعاقين.
نقد جمالي
حول أعمال "كرو"، قال الدكتور "علي سليمان" فنان تشكيلي، ومحاضر في كلية الفنون الجميلة ـ جامعة "دمشق": «يمكن أن ترقي تجربة الفنان التشكيلي "كرو" إلى نتائج أكثر تميزاً في مجال اللوحة، لكن المفروض عليه أن يعرف كيف يهدأ من حرارة اللون».
وأضاف: «إن أعمال "كرو" حصيلة تجربة ذاتية واجتهاد شخصي، توضح لنا أنه لم يتلق علوماً أكاديمية بالفنون، وذلك يؤكد أنه فنان موهوب قادر على الإبداع واستمرارية البحث عن هويته الخاصة، لكنه بنفس الوقت يحتاج إلى بحث وزيادة التعمق في مجال التصوير، ونأمل أن يقدم في المستقبل القريب نتاجاً تشكيلياً، يحمل رؤية فنية جديدة».