مجلة صوت سورية – راغب العثماني
مجلة صوت سورية – راغب العثماني
eSyria
إعداد الدكتور مهيار الملوحي
صدرت مجلة (صوت سورية) في دمشق في مطلع عام 1954، وكانت المجلة تصدر عن الشؤون الاجتماعية للشرطة والأمن العام، وجاءت ضمن (54) صفحة من الحجم الكبير، وذات ورق أبيض مصقول، حسنة الطباعة والإخراج، وذات مواضيع متنوعة، وكانت رديفة لمجلة (الشرطة والأمن العام) التابعة للمديرية العامة للشرطة والأمن العام، وقد أسسها وأشرف عليها في البداية الصحفي الحلبي حسن توفيق عبد العال (1910-1982) ولم تستمر طويلا في الصدور تحت هذا العنوان. حوت المجلة عدة أبواب منها: (سير العلوم والفنون) و(أعلام العلوم والفنون) و(من عيون الشعر العربي) والعديد من المقالات التاريخية والجغرافية والمقالات المتخصصة.
ومن الأقلام التي كتبت في هذه المجلة الشيخ راغب العثماني اللاذقاني (1898-1968) وهو من مواليد اللاذقية، وتلقى علومه الأولية فيها، وتعلم العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية في جامع العمرية، وأجيز في القضاء الشرعي، وعين قاضيا شرعيا في حماة ثم قاضيا شرعيا في قضاء الكورة من أعمال لبنان.
وفي عام 1924 عمل في دمشق بالصحافة، وأصدر جريدة (أبو العلاء المعري) في 28/3/1924، وكان صاحب امتيازها ورئيس تحريرها وكانت جريدة سياسية أدبية علمية فكاهية انتقاديه مصورة، وبعد عدة سنوات أصدر جريدته الثانية (الاستقلال) في دمشق في 6/7/1928، وكان أيضا صاحبها ورئيس تحريرها المسؤول، وكانت جريدة أسبوعية سياسية. وقد استمرت هذه الجريدة حتى عام 1951، عين بعد ذلك مأمورا للإحصاء في مديرية اللاجئين الفلسطينيين العرب، ونال وسام الاستحقاق السوري.
له عدة مؤلفات منها: (باب الاجتهاد) و(الإسلام دين ودنيا) وكتاب لماذا أنا مسلم.
ونجد في العدد (17) الصادر في أيار عام 1954 مقالا بقلم الشيخ راغب العثماني بعنوان (المجرم والعدالة) جاء فيه:
(لم يعد المجرم البارع في هذه الأيام آثما شريرا فحسب، بل عالما خبيرا كذلك، فقد أصبح (ارتكاب الجرائم) علما له قواعده وأصوله، وله معاهده وأساتذته، ولو سألت كبار المجرمين المعاصرين كيف يمضون أوقات فراغهم، لأجابوك: في دراسة الكيمياء والطبيعة والميكانيك دراسة مفصلة، ذلك أن هذه العلوم هي عدتنا في أداء مهمتنا الدقيقة فالجريمة في هذا العصر شأنها شأن أي أمر آخر تقوم على أساس من العلوم الحديثة التي لابد للمجرم من دراسة قواعدها ومتابعة تطورها، إذا ما أراد النجاح في اقتراف جناياته، ولهذا أنشئت في أوربة مدارس خاصة يقصدها من يريد أن يبرع في (علم ارتكاب الجريمة) ليتلقى من كبار الأساتذة والأخصائيين أدق الوسائل العلمية في نهب المتاجر وفتح الخزائن، وفي إدارة تجارة الممنوعات والرقيق الأبيض وغير ذلك من أساليب الإجرام.
وقد تقدم العلم في معاونة المجرم على سلب المصارف وحطم الخزائن، بفضل ما يقدم إليه من مواد كيماوية وأساليب ميكانيكية تلين المعادن وتذيبها، حتى لم تعد تجدي نفعا هذه الحواجز الكهربائية التي اعتاد أصحاب الأموال أن يحيطوا بها خزائنهم، ولا هذه الأجراس التي تدق من تلقاء نفسها إذا مست إحراز الأموال، وصار في وسع المجرم الذي درس الهندسة الكهربائية أن ينفذ إلى حيث يريد آمنا شر هذه الوسائل والأساليب.
ولكن للعلم سلاحين: أحدهما في يد المجرم، والآخر في يد العدالة فقد تقدمت كذلك وسائل الكشف عن الجرائم وإيقاع الجناة،وبقدر ما صار يسيرا على الآثم أن ينهب ويقتل بقدر ما صار عسيرا عليه أن يهرب وينجو، فلم يعد المجرم يخشى رجال الشرطة السرية وما برعوا فيه من أساليب الخديعة والدهاء وإنما يخاف أولئك العلماء الذين يفحصون آثار جريمته مهما كانت خافية دقيقة، هكذا الميكرو سكوب والكاميرا وغيرها من أدوات البحث العلمي هي عدة القانون المجدية، وهي عدو المجرم اللدود، وصار (المعمل) هو سبيل حل ألغاز الجنايات، وطريق البحث عن المجرمين خذ مثلا بصمات الأصابع التي لا يتشابه فيها اثنان، فإن المجرمين يحاولون تفادي خطرها بإزالة خطوطها وتشويه أشكالها بالمواد الكيماوية المختلفة، ولكن في وسع العلماء مع هذا أن يستدلوا مما تبقى من آثارها على صورها الحقيقية، وكذلك (ظرف) الرصاص صار في وسع العلم أن يبين على وجه الدقة كل شيء عن الفوهة التي انطلق منها، وعن الأثر الذي أحدثه فيها، فالفوهتان المتشابهتان في السعة والطول والسمك وكل شيء آخر تترك كل منها في (الظرف) الذي تلقيه أثرا معينا لا يختلط بسواه.
ولا ننسى آلة الكشف عن الكذب فقد أتى هذا الجهاز بنتائج وافية دقيقة أتاحت للمحاكم أخيرا في أوربة أن تعتمد عليها وتأخذ بها، وطريقتها أن يلف ذراع المتهم بسوار خاص له إبر دقيقة تهتز وفق حركات النبض وكذلك صدره يلف بسلك ينتهي بإبرة تبين ما يطرأ على حركات النفس، ثم تلقى على المتهم أسئلة إن صدق في جوابه عنها ظلت حالة نبضه وتنفسه طبيعية، وإن كذب اضطرب نبض العروق وحركة الصدر فأظهرت إبرتا الجهاز هذا التغيير الواضح. والأسئلة التي تلقى على المتهم تكون خليطا مما يتعلق بالجريمة ومما لا صلة له بها، فيسأل مثلا عن عمره وعن عمر زوجته وعن المنزل الذي يقطنه والسيارة التي يملكها، ثم يسأل مباشرة وبنفس اللهجة والصوت عن الجريمة وعلاقته بها، فمهما كان رزينا جريئا ومهما حاول أن يمتلك رشده ومعرفته فلابد أن يضطرب نفسه ونبضه، وقد بلغ من دقة العلم أن ذرات قليلة من الغبار قد تدل حرفة الجاني، وهل هو فلاح يضرب الأرض، أم هو نجار ينشر الأخشاب، أم هو حلاق يقص الشعر...
ولم يعد العلم في حاجة إلى تتبع آثار الأقدام، بل يكتفي بأثر واحد يبحث ما تخلف عنه من تراب ووحل، ويصل بذلك إلى صاحب هذه القدم: وهل كان قبل وصوله مكان الجريمة يركب سيارة أم قطارا أم يترجل.
وعلى الجملة فالعلم يخدم المجرم والقانون معا، ولكن حظ العدالة أوفى من حظ الجريمة، وكلما خطا العلماء في طريقهم كلما ثبت بنيان القانون وتزعزعت أقدام الجناة، فمهما يكن للعلم من مساوئ فإن مزاياه غالية رابحة).