"محمد أبو خالد":المتأمل ناقل وناقد لما يراه

علاء الجمّال

"محمد أبو خالد" نحات تشكيلي سوري، أُمضى ما ينوف عن 25عاماً في مجال النحت الواقعي والتعبيري، عرف عنه الالتزام والتجديد، وله في المنطق النقدي والتصور في  بلوغ الحداثة والعالمية قراءة ورأي، كما أن رسالته في النحت يوضحها التجسيم الدقيق، وبساطة الخطوط في الشكل العفوي.

للوقوف عند هذه السمات  ecalendar زار النحات "أبو خالد" وأجرى معه هذا الحوار:  

ــ منذ البدايات تعمل على مادتي "الجبس والصلصال"، ما السر في انجذابك نحوهما؟

روح المبدع تنسجم مع مادة النحت التي تثيرها، ووجدت نفسي أميل إلا "الجبس والصلصال" لأنهما المحط الأخير لفضاءات ذاكرتي، يقبلان الزيادة والتصحيح، وينتقلان رؤيتي بحساسية عالية إلى لوحتي النحتية، فأستطيع ببضع ساعات أن أكون "بورتريه" ضمن المنحى الذي اخترته في التشكيل، فأطليه بمادة "الفايبر كلاس" ليأخذ لوناً برونزياً، ويوحد معالم الشكل، ويزيد من سمات الجذب البصري فيه ويشعرني بالرضا، وكانت تجربة وحيدة مع "الحجر الرخامي" في ملتقى النحت الثاني في "سورية"، ولأنها غير مقنعة لم أكن راضياً عنها كون "الحجر" لا يقبل الزيادة والتصحيح، ولم يتناسب مع رؤاي في التعبير.   

 

         

ــ ماذا عن الموضوع الذي يثيرك شغف العمل عليه؟

يثيرني شغف العمل على تشكيل الطبيعة الإنسانية، مملكة الهيام والتجسيد المثالي،  فيها تجد حالات الهدوء والمرح والغضب والتوسل، عبرها تعود إلى التاريخ وتجسد أعظم الشخصيات التي مرّت خلاله، ومنها تتعرف إلى سماتهم وبعدهم المعرفي مثل "ابن رشد، الخوارزمي، الفارابي، ابن سينا" وغيرهم الكثير.. هذا ما أتعمد تشكيله في منحوتات واقعية تصل بأبعادها إلى الجميع. 

ــ أعلام النحت في العالم العربي، من منهم حرك فيك هاجس البحث والتغيير؟

لطالما استهواني البحث في أعمال النحات المصري "محمود مختار"، وأتساءل لماذا لا تدرس أعماله، رغم أنه يعادل "رودان"  في أهمية الأسلوب والتكوين؟  ولماذا تدرس أعمال "مايكلاأنجلو" في حين أن الفنان العربي لا يكترث لأمره، وإنجازاته المخلدة في هامش الظل؟

"محمود مختار" عندما نحت في "مصر" تمثال النهضة على "حجر الغرانيت"، خامة النحت المصري منذ القدم، خلق جسراً متيناً للربط بين الماضي والحاضر، ولأنه عزز بأبحاثه من أهمية "مصر" كتاريخ وتراث سارعت شيوخ الجامع "الأزهر" إلى تكريمه بإقامة نصب تذكاري له.

 

 

الحداثة لا تنشأ من عدم

ــ يلاحظ في النحت السوري، توجهاً شديداً نحو الحداثة، علماً أن غالبية الأعمال تبدو كشكل مجرد مفتقر إلى التأثيرية المباشرة على العين، برأيك إلى مدى يمكن اعتبار الحداثة مفهوماً معاصراً نتجه إليه؟

الحداثة في النحت تأتي تتويجاً لمراحل متقدمة يخوضها النحات مع أساليب التشكيل والتجريب على خامات العمل.. والأميز من بينها إتقان المذهب الواقعي،  وما نراه الآن في الوسط التشكيلي السوري عبارة عن تجريد مباشر أو شكلانية غير مقروءة، وهذا ينتج بالتالي أعمالاً نحتية غير مقتنعة ويهدم الذائقة الحسية عند المتأمل، فالشاعر لا يمكن له أن يكون ملقياً متمكناً إذا لم يكن على دراية ببحور الشعر ومفردات اللغة، والحداثة لا تنشأ من عدم، وتحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد..

"أوروبا" مثلاُ تستند في منحى النحت إلى  الواقعية الدقيقة عند كبار الراحلين والمجددين لديها، " بابلو بيكاسو، سيلفادور دالي، رامب رانت" وآخرون تركوا أعمالاً رائعة في التصوير الزيتي، ومنها ممتدٌ إلى مذاهب فنية أخرى وكانوا مؤسسين فيها.. ولأنهم أحسنوا السيطرة على مفردات الفراغ كالخيال والمدى والعمق، ووظفوه بصدق الحس لخدمة التشكيل، أيقظوا جوانب ذهنية أظلمت في حياة الآخرين، وكانت سبباً في انطلاقة بعضهم وشهرتهم عالمياً، ليس بالتقليد وإنما بالمعرفة والإبداع، وهذا ينطبق على النحت من حيث العودة إلى جذوره وفهم تاريخه وواقعيته، فيمكن عندها القول: «أن النتاج النحتي المعاصر حداثة.

 

ــ ما تفسيرك لنضوب العمل في النحت الواقعي؟

يعود النضوب العمل الواقعي إلى عدّة عوامل: منها دقة التشريح ولازلت أدرس هذا الجانب، فترة الركود التي لحقت بالنحت سابقاً، الافتقار إلى التخصص، اعتياد القالب النحتي الجاهز، اللجوء السهل إلى التجريد، الوقت الطويل قياساً بخناق الظرف الحياتي، فتجاوزاً لتلك المعوقات يجب أن تصل رعاية الفن إلى كافة الشرائح المبدعة فيه، ومع وجود ملتقيات النحت الآن بات هناك حافزاً أكبر لتطوير هذا الفن.

ــ من الناقد في علم النحت؟

المسؤولية الأهم في علم النحت تدور في فلك الإنجاز الذي يجسد عملاً  يقدره ويحترمه الجميع، وتبقى مستندة إلى التجريب مهما بلغ الفنان من مكانة عالية، ولا يجدر الاستخفاف بفهم المتأمل لأنه ناقلٌ و ناقدٌ لما يراه، والفن معادلة تشاركيه طرفيها المبدع والجمهور، والعمل المتميز يفرض وجوده أينما كان موضعه. 

الخلود ليس مقترناً بمجتمع ما

ــ كثير من الأعمال الفنية في العالم، حظيت بمنزلة الخلود وباتت معلماً ومرجعاً، برأيك ما العوامل التي منحتها هذا الرقي والتقدير؟

التمتع بالوجدانية المرهفة، التمسك بالحس الإنساني، التمازج مع مكونات الحلم والحقيقة، تجاوز المكان حتى اللانهاية، مفردات الخلود للعمل الفني، ونحن نملك الخامة والمقدرة لخلق أعمال فنية خالدة، وهناك أعمال لفنانين سوريين موزعة في متاحف عالمية.. إذاً الخلود ليس مقترناً بمجتمع ما، ولكن إذا ساد تقليد العمل الفني لعظماء راحلين، كهدف للإنجاز قتلت تلك المفردات وضاعت تلك المنزلة.

 

ــ هل يمكننا الوصول إلى ذات الحظوة؟

يحمل تاريخنا تراثاً واسعاً وغنيًاً، لذا يجب علينا أولاً العودة إلى الجوانب المضيئة فيه، وإحياء المندثرة منه، ليكون رافداً إلى التفوق والنهوض، "أوروبا" عادت إلى تراث اليونانيين والرومانيين"، واتبعت كمثال نهج  الفيلسوف اليوناني "هيروقليطس" كحكمة وفعل حتى ترقي بجانب من الفنون وتتميز، ونحن فيما مضى كان لنا دور هام في ذاك التميز عن طريق الفيلسوف العربي "ابن رشد" وفلسفته التي كانت محوراً هاماً في عصر النهضة، وستبقى مثالاً لمئات السنين.. والوصل إلى الحظوة منارة أمامنا، وعلينا فقط النظر إليها.

ــ العالمية كيف تقرئها بمفهومك الخاص؟

العالمية درب مفتوحة أمام الجميع، والعبور إليها يحتاج إلى الموهبة والتجريب والمبادرة الشخصية إلى النشاط الخارجي، "إدوارد سعيد" مفكر فلسطيني استطاع أن ينقل القضية الفلسطينية إلى الوجدان العالمي، وأصبح عبر عمله الجاد والملتزم عالمياً، الموهبة لا تكفي وحدها للعالمية، وهنا ثغرة نعاني منها في الداخل المحلي، التجريب دون المبادرة ربما الظروف هي من تعيق لكنها صنعت الكثيرين.. "عمر حمدي" رسام سوري في بلده اتسمت أعماله بالمحلية، وعند اغترابه باتت عالمية ولا يعني ذلك أن كل مغترب يكون عالمياً، الأكفأ فقط من يصل.   

 

 

النحت يحتاج إلى توحد عناصر الانسجام

ــ الموسيقى الروحية في العمل النحتي، كيف يمكن للعين أن تسمعها؟

انسجام الكتل مع بعضها، وتناغمها مع السطوح والفراغ والبعد، موسيقى روحية، يكونها الفنان ويوحي بها الجوهر ويعزفها المدار الساكن حولها، وحتى تسمعها العين لا بدّ لها من فهم إيحاء الكتلة وإدراك جوهرها والغاية من وجودها، والنحت يحتاج إلى توحد عناصر الانسجام، حتى تأخذ الكتل مقامها الحقيقي من حيث الرؤية والتأثير والقراءة السليمة، فهذا ما أكسب تمثال "موسى" عليه السلام للنحات "مايكلا أنجلو" البروز والشهرة، والرأي ذاته ينطبق على التصوير الزيتي، "ليوناردو دافنشي" عندما مزج موسيقاه الروحية في لوحته "لجيوكندا" تنازعت شهرتها المجلدات.

ــ يمكن للحظة الانفعال أن تولد عملاً نحتياً تخلده ذاكرة الفنان؟

بالتأكيد، فمنذ 25 عاماً صنعت "بورتريه" أحتفظ به في مرسمي، وكلما نظرت إليه تغمرني مشاعر دافئة، والتجربة تشكلت في ومضة من الانفعال كسرت سكينتي، وانتهت ببقايا من "الجبس" الطري جمعتها وأعدت عجنها، وأحدثت منها تكويناً لوجه إنساني يمثل الحالة التي كنت ماثلاً لها.

ــ ألا يجدر أن تتقدم منصة النحت في "سورية"

ربما، علماً أن أكثر العظماء إذا سألتهم رأيهم فيما فعلوا، قالوا: «لاشيء»، وتجربتي لازالت متواضعة رغم الآراء الإيجابية، التي حثتني طويلاً على أن أتقدم منصة النحت السوري، وأقول بعد كل هذه السنين: «أنا في البداية»، وأحترم تجارب الآخرين كيفما ظهرت لأنها مهمة، وتفيد مكانها وزمانها.  

ظروف تعيق الإنجاز

حول سمات النحات، قال الفنان التشكيلي السوري "نعيم شلش"، وهو مرافق له في رحلته: «"محمد أبو خالد" من النحاتين المجدّين في "سورية"، يملك حس تعبيري بمنتهى الروعة، يعمل "بالصلصال والجبس" المباشر، فحوى تجربته تلخيص وتبسيط شكل الإنسان وتحويره إلى مساحة متناغمة مع المتخيل والبعد والفراغ، وهذا أسلوب لأحد النحاتين المهمين في "مصر"، وفي جانب آخر يميل نحته إلى التكوين الواقعي الدقيق، وخاصة  "البورتريه" ـ الوجه».

وأضاف: «أثبت النحات "محمد أبو خالد" وجوداً وفهماً عميقاً للعمل النحتي، أٌقام في "دمشق" نصباً تذكارية للعديد من الشخصيات التاريخية العظيمة.. كتمثال الفيلسوف العربي "ابن رشد"، والفيلسوف اليوناني "زارادشت"، كما أنه متابع جيد للنشاط الفني السوري، ولديه أكثر من منحى للعمل الإبداعي النحتي، ولكن ظروفه لم تسمح له بأن يكرس الوقت والجهد الكافي لأن يستكمل فنه بالنشاط الخارجي والعالمي، إلا أنه حقق في بلده تفوقاُ ومكانة يفخر بها».

 

 

ببلوغرافيا النحات

ولد النحات "محمد أبو خالد" في "القنيطرة" عام 1952، تخرج في كلية الفنون الجميلة ـ جامعة "دمشق" عام 1981، وعمل مدرساً فيها لأكثر من عام، وهو رئيس لمركز الفنون التشكيلية في "القنيطرة"، شارك في معرض "الكاريكاتور" العربي عام 1979، وفي العديد من ملتقيات النحت.. من أعماله تمثال نصبي للفيلسوف "ابن رشد" في حديقة "ابن رشد" "بدمشق"، وتمثال للرئيس الراحل "حافظ الأسد" والشهيد "باسل الأسد" في "القنيطرة"