"مصطفى النجار" و العودة لقصيدة النثر
محمد علو
صدرت المجموعة النثرية الأولى للشاعر "مصطفى النجار" في العام 1963م، وكانت باكورة أعماله الأدبية، ولم يصدر بعدها الشاعر "النجار" أية مجموعة نثرية حتى العام 2011 ليقدم لنا فيه مجموعته "الوردة ذات التويجات المبعثرة".
المفكرة الثقافية التقت بالشاعر "مصطفى النجار" للحديث عن مجموعته وسبب عودته للنثر فكان الحار التالي:
* لماذا العودة إلى النثر بعد هذا الانقطاع؟
** أشبه الشاعر بالبحر، والبحر مرة يكون هادئا ومرة يكون هائجا، مرة نراه صافيا ونراه مرة أخرى يمثل قوس قزح من الألوان. بعض الشعراء يخضعون لنمط واحد من التعبير ولا يحيدون عنه، والبعض الآخر يمثلون البحر بتجلياته. وبالنسبة لي فأنا أكتب الأنماط الشعرية الثلاثة "العمودي والتفعيلة والنثر" منذ البدء، بعض الشعراء كما يصرحون هم وكما يلاحظ القارئ بدؤوا بالشعر العمودي ثم انتقلوا إلى التفعيلة ثم النثر، واعتبروا قصيدة النثر آخر صرخة بالحداثة وآخر مرحلة لتطورهم، وهذا ما أسميه بالتطور الحلقي، بينما أنا ومنذ البدء كتبت الأنماط الثلاثة، وإذا مرت فترة توقفت فيها عن كتابة قصيدة النثر فهذا عائد لطبيعة هذا البحر وأقصد طبيعة النفس الإنسانية التي تميل إلى لون أكثر من آخر من فترة لأخرى.
* برزت في هذه المجموعة الوجدانيات ومحاكاة الهم الاجتماعي، فهل هي فترة خلاصة أكثر من البدايات التي ينطلق منها الشاعر؟
** أعزو هذا الاهتمام إلى الاهتمام بالانتماء الاجتماعي والانتماء إلى البيئة. الانتماء إلى الواقع منذ المجموعة الأولى. من يقرأ "شحارير بيضاء" يلمس فيها الهمّ الإنساني العام، وهذه الهموم عبرتُ عنها أيضا في القصة القصيرة أيام كنت أكتبها عن طريق المراسلة الصحفية. هذا الأمر يعود إلى اندماج واندغام بين الذات والمجتمع، بين الأنا المنفتحة وتلك الأنا المتقوقعة واندماجها مع بسطاء الناس ومتعبيهم.
* لعلني لمست هذا الطرح بطريقة أكثر تأملية؟
** هذا مايفرّق بين اللغة الأدبية واللغة العلمية، الأدب ولغة الشعر عموما لغة مجاز، فحينما اعبر عن هذه الهموم بأسلوب تقريري ينتقل الشعر إلى النثر العادي، وعندما يفقد النص الأدبي ظلاله وأضوائه وإيماءاته ورموزه يتحول إلى مجرد كلام عادي. فأي هم عام مهما كان مستواه ودرجته ونوعيته لا بد أن يخضع للهم الخاص، يتحول إلى هم خاص وينصهر في بوتقة النفس ثم يتحول إلى أشكال شعرية.
* هل نستطيع القول أن الروح الحزينة تسود معظم القصائد إن كانت صريحة في الرثاء، أو مضمنة في باقي المواضيع؟
** لعلك لمستَ في هذه المجموعة شيئا من الحزن، ولكن ليس التشاؤم. الحزن شعور إنساني مقدس، ومادام الشعر يمتح من بئر الصدق سيكون معبرا بصدق عن هذا الحزن في حال خزنه ولا يتعمد الحزن كما انه لا يجب أن يتعمد الفرح لكي لا يتحول من العفوية والتلقائية إلى الافتعال.
في هذه المجموعة بعض القصائد في رثاء طفلتي "مروة" هذه الطفلة البرعم التي عانت مع مرض السرطان، هذه المعاناة ألقت بظلالها على بعض مقطوعات هذه المجموعة، إضافة إلى ما أشرت إليه بالانتماء والارتباط بالمجتمع والواقع.
* هل هناك وقوف على الأطلال في هذه المجموعة، سواء كانت أطلال القصيدة أو أطلال العمر؟
** أنا أؤمن بوحدة الأزمنة مثلما أؤمن بأن الإنسان جسدٌ وروح. عندما يتقدم المرء بالعمر ويدلف إلى عتبة الكهولة والشيخوخة يحنُّ إلى الماضي ويسترجعه، ويتمنى أن يتصف الواقع بعذوبة وطفولة الماضي، وهذه الطفولة لا يمكن أن ينساها المرء وخاصة إذا كان فنانا أو شاعر أو كاتبا، فهي محفورة بذاكرة الوجدان. هناك قصيدة لي أتذكرها بعنوان "الرجل الذي يبحث عن الطفولة" وهي عبارة عن عودة واسترجاع لفترة الطفولة التي أمضيتها في ربوع مدينة "منبج". إذن هناك عودة إلى الطفولة وليس هروبا لأن هناك العديد من القصائد التي تواجه الواقع وتمتح منه.
* وعن الغزل نسأل هل لازال البحث عن الحبيب في زوايا الغزل المقدس؟
** الحبيب والحب هنا يتحول من محسوس ومحدود ومجسم إلى ما يشبه الحلم ما يشبه الرمز، فالشاعر دائما يحلم بالجمل والأفضل فيخاطب الغائب هذا الغائب هل هو أنثى من لحم ودم؟!، ربما يضيف إلى تجربته عن الحب هذا الرمز ويحلم به ويتمناه.
أما الغزل المقدس فمن يقرأ ما يسمى (شعر غرف النوم) يشعر بلذة مؤقتة ثم ما تفتأ أن تتلاشى، فالنظرة الجنسية مؤقتة وزائلة سريعا، أما الباقي هي رفرفات الروح، فالجسد يخضع للروح ويتعاضدان للإبداع والصناعة والحياة.
* أخيرا.. إلى ماذا تدعو في هذه المجموعة؟
** هذه المجموعة لَملَمتْ شتاتَ قصائدَ ومقطوعاتٍ ونثرياتٍ على مدى سنوات، ولعل القارئ يلمس من خلالها مضامين وأغراض سامية تحت عناوين الحب، الإنسانية، بماء المدينة الفاضلة والإنسان الذي يؤكد على إنسانيته.
الأديبة "سها شريّف" قالت عن المجموعة: «بالرغم من أن قصيدة النثر مازالت خاضعة للدراسة بسبب تباين وجهات النظر حولها ولكن هناك قصائد متفوقة تتضمن أبعاد فكرية وحياتية تثبت أن قصيدة النثر مازالت بخير وتسير بخطى واثقة.
تعتمد قصيدة النثر على عمق المعنى والصور البيانية والخيال الشعري والتكثيف والرمز والجرس الداخلي ويعتبر الشاعر "مصطفى النجار" في ديوانه ( الوردة ذات التويجات المبعثرة) رائداً في قصيدة النثر حيث استطاع أن يلج محراب قصيدة النثر ويبدع بها . لقد حقق نجاحاً ملحوظاً في ديوانه، وما يميز هذه المجموعة الاندفاعات اللفظية الدلالية العميقة والمفردات الغزيرة التي تعج بجسد القصائد.
صاغ أيضاً جمله الشعرية من خلال إيقاع متناغم وجرس موسيقي داخلي وسافر بنا عبر الكلمة الصادقة والموحية، كما أن مخزون الشاعر اللغوي يدعونا للتقصي والبحث على ما وراء اللفظة، وإن عنوان المجموعة "الوردة ذات التويجات المبعثرة" يوحي بدلالات متنوعة ولمعرفة الدلالات وكنوزها لابد من قراءة المجموعة لأنه ديوان يستحق الشاعر عليه الثناء والتقدير فقد حقق ديوانه المتعة الفكرية المنشودة وأثبت أن قصيدة النثر مازالت بخير».
ومن المجموعة نختار قصيدة "الذوبان حبّاً":
«سأُسكت في جوفي شهوة الأشياء
ورباب الجرح الخاص
وفحيح أفعى تجري لقطف الفراشات
سأبسط أمام الوط
كفي وقلبي وحياتي!
متى أُسدلَ الستار عن مذبحة الشفق
في داخله، وأرجأ الحديث عنها
متى طوى أوراقه
ليبسط للوطن كفه وقلبه وحنانه
ومتى أسكت في جوفه ناي الـ "أنا"
ورباب الجرح الخاص جدا
وشهوة الأشياء الفارهة
والصعود على جثث الورد
وصار هبوطا إلى عائلة الورد
ومتى كفّ فحيح الأفعى..
وجريه السريع نحو قطف الفراشات
متى فعل ذلك طوعا لا كرها
ستصبح الحياة في ذلته
وذاته مستقبل الوطن!؟».
الجدير بالذكر أن الشاعر "مصطفى النجار" من مواليد "حلب" 1943 نشأ وترعرع في "منبج". أمضى ثلاثين عاما في تعليم وتربية الأطفال. أصدر باكورة أعماله (شحارير بيضاء) في العام 1963. له في الشعر: من سرق القمر، ماذا يقول القبس الأخضر؟، كلمات ليست للصمت، من رفيف الروح. ومجموعات أخرى.
عرف بالمجموعات الشعرية المشتركة مع شعراء الوطن العربي والتي بلغت ثماني مجموعات. ناشط ثقافي وعضو في عدد من النوادي والروابط الأدبية.