"معتز البشار": الفن يحتاج إلى ثقافة بصرية مترفة
علاء الجمّال":
"معتز البشار" فنان تشكيلي سوري، ولد في دمشق عام/1970/، رغب الفن منذ طفولته فقرر أن يكون مرجعاًَ فيه، وعبر تجريب غير منقطع واكتشاف اختار لنفسه أسلوباً فنياً محايداً، جمع فيه الصوفية والفلسفة وتحرر الفكر في منظومة واحدة، شكلت أرضية متينة لعالمه التشكيلي المليء بالتضاد والصمت.
أقام "البشار"وهو العضو في نقابة الفنون الجميلة "بدمشق" ثلاثة معارض فردية بعنوان "عوالم مفترضة، كونيات، حوار في نقطة"، كما له حضور في عدة معارض مشتركة، والمميز في معارضه الشخصية أنها عادت في جوهرها إلى ذات البحث التجريدي لديه المبني على "الميتافيزيقيا" التصور الماورائي للأشياء الواقعية.
للدخول في الجوانب الفكرية لدى الفنان السوري"" زارته في مرسمه الكائن في منطقة "القيمرية" إلى جوار "كافيتريا تمر حنا" في 18/8/2008، وأجرت معه الحوار التالي:
ــ دعنا في البداية نتحدث عن أسلوب الانطباعية الذي دخلت فيه منذ سنتين تقريباً؟
خلال الفترة الماضية، ساد عندي التغيير بين فكرة القيم المطلقة في الفن التشكيلي، ودار صراع بيني وبين الشكل في اللوحة، فصرت أميل إلى المفاهيم العدمية في "التجريد"،أو الخارجة عن السائد والمعتاد، رافضاً أن تأخذ اللوحة أي قيمة واقعية، لكني رغم ذلك أحن لعالمي الأول في التشكيل الانطباعي، فكنت أرجع بين الفينة والأخرى لرسم لوحات ذات قيم واقعية متحررة في الشكل بالمفهوم الانطباعي التجريدي العميق، واستفدت من مهارتي التي تراكمت منذ طفولتي حتى هذه اللحظة، والآن منكب على تعميق الرؤية الجديدة وبلورتها وأفكر أن أعرضها، وهي تتبنى اللحظة الفاصلة ما بين الشكل وعدم وجوده.
ــ كيف تنظر إلى الحداثة في الرسم، وماذا عن تأثرك بها؟
تعددت المفاهيم الحديثة بالفن التشكيلي، وأنا مع هذه المفاهيم، وتأثري بها جاء من ظني الشخصي أن الرسم سيعود إلى المدرسة "الانطباعية"وهي الأساس، وذلك سبب تحولي عن التجريدية إليها, من هنا فكرت أن أقف وأبحث عنها لكن مع بداية أخرى ومختلفة، فعندما يدخل الفن في تجربة ويخرج منها ويعود إليها، لا يعود بنفس الإحداثيات التي بدء بها سابقاً.
اختزال المتخيل وخلقه الوجودي
ــ المميز في أعمالك طريقة تشكيل الموضوع المتخيل والمنقول عن مشهد واقعي، كيف تجمع بينهما وهل يشكل ذلك إشكالية؟
تبدأ اللوحة من "الفكرة واختزالها وخلقها الوجودي المثالي"..هذا يكفي لأن تكون متحررة من أي أعباء مثقلة، وعندما أرسم لوحة أجسد عبرها هموم الظل والنور والخط والتكوين لا أفكر بأي مسألة أخرى مؤطرة زمنيا،ً أنفذها بتكنيك عالي وأجعلها متقشفة تقنياً، ومعزولة عن أي أيديولوجية، تحمل فكرة ولا تحكي بأي إشكالية، وأرى أن الفن هو إشكالية بحد ذاته ولا يحتاج إلى قضية يتدحث عنها.
ــ أنت تهوى الصوفية، ماذا تقول حول هذا الجانب؟
إن إحساسك الغامر بوجودك يجعلك تنفذ إلى ما وراء الوجود، فنحن موجودون ببعدين واقعي وميتافيزيقي " ما ورائي"، وأن تكون صوفياً يعني أن تكسر ما يفصل ما بين هذين البعدين عليك أن تدرك بإرادتك إرادة "الله" وتعرف أن إرادته حولك هي إرادتك، وعبرها يتضح مصيرك.
ــ تترجم عبر أعمالك قلقاً داخلياً توضحه النقطة، ما حقيقة هذا القلق، وما مدلول النقطة في لوحتك؟
منذ زمن بعيد عشت قلق اللوحة..هذا القلق جذبني إلى عالم النشوة البصرية وأحياناً أخرى لفظني منها، وحيرتي في أن أكون أو لا أكون ضمنها، جعلتني أعيش قلقي الوجودي في التشكيل، وأكثر الأحيان أتمنى لو أنه يفارقني أو أعرف ماذا سأكون من دونه، والنقطة هي كتلة لونية متقشفة بالمساحة وتكون أكثر قيمة في اللوحة الأكثر حساسية، وعندما أحدثها في فظاء اللون تثير قلقاً ملحوظاً يوضح حسي في الرؤية والشكل.
ــ تطغى على أعمالك مساحات لونية كبيرة تكون موحدة اللون أحياناً، تدل على فراغ كبير تحيا به، يتعلق بالتخلي جزئياً عن الواقع المحسوس، ماذا أضاف الفراغ إلى مكنونك الصوفي، وكيف تمده بطاقة العمل الفني؟
أرى في الكتلة اللونية التي تغطي أجزاء اللوحة التي تخلو من المنظور إطلاقاً للبعد المكاني وتجاهل للبعد الزمني، وهذا أعتبره من مفهوماً فلسفياً غير محدد الأبعاد، وأمدّه بطاقة العمل الفني من خلال مشهد تختزنه ذاكرتي بلحظة ما، ثم يبدأ بالتبلور مع مرور الوقت ويصبح مثيراً للقلق حتى أراه يتخذ خطوطه في الكادر الأبيض أمامي، والبداية تكون مثيرة وشهوانية في اختراق الشكل والعمل عليه، لذا أحب أن أكون مغامراً بعالمي المعرفي وثقافتي البصرية، وأستعين بذاكرتي الأولى حتى أجعله منفتحاً بلانهاية على المشهد الواقعي.
معايير التجريد وقيمه الصارمة
ــ قلت أن التجريد هو "عين الواقع وأصله" ما المقصود بذلك؟
عندما أرسم عملاً واقعياً بالمفهوم العام، يعني أني أرسم القيم المشابهة أو المماثلة للواقع وهذا برأي خطأ، لأن اللوحة المرسومة بقيم الواقعية بالمفهوم السائد ليست واقعية بل هي مماثلة للواقع الذي هو في حقيقته شيء أخر مستقل عنها، أما اللوحة المسماة "تجريدية" هي الصورة الواقعية التي من خلالها الواقع يفنى بفنائها ويوجد بوجودها.
ــ ما هي المعايير التي يستند إليها التجريد كمذهب ؟
التجريد له معايير واضحة وقيم صارمة عكس ما يظن الآخرون أن قيمه نسبية بشكل كبير، فمن قيمه "اللون" فإن وظف بشكل صحيح حمل حساسية الموضوع وخصوصيته وحسّه الغرافيكي، ويكون أكثر قيمة في التكوين التجريدي الذي يعدّ المعيار الأكثر وضوحاً وأهمية في تجاوز الشكل إلى ما بعده والقدرة على كشف إمكانيات الفنان الأسلوبية والتقنية.
ــ قلت إن اللوحة تحتاج إلى خيانة عالمها المعرفي للكشف عن الأوجه الجديدة فيها ما تفسيرك لذلك؟
حتى تكون صادقاً في العمل يجب أن تتجاهل عالمك المعرفي إلى مساحات غير مدركة من التخيل، فأنا أرسم اللوحة لأتمم معرفتي بها بعيداً عن إرثي البصري وعالمي المعرفي، ولو كنت أعرفها وأدركها لما أقدمت على رسمها، وفي النهاية أعتبرها مغامرة للعقل تؤهله للخوض في عوالم لا يعرفها.
ــ كيف يمكننا برأيك أن نحول التكوين في العمل الفني إلى حركة عفوية مدروسة أو انفعالية متعمدة، تخلق أمام المـتأمل حيزاً كبيراً من التمعن والتفكير في تحليل الشكل الناتج؟
يحتاج الفن عموماً إلى ثقافة مترفة وتجربة مبذرة، وتكون التجربة أكثر جدوه سواءً كانت عفوية مدروسة أو انفعالية متعمدة عندما تبتعد عن الوعي إلى مهارات اللاوعي، التي ترتبط بمهارة اليد العاجزة بتصوري عن التعبير الإنساني إذا أحكمها العقل في السيطرة والتحرك، والقادرة بمهارة ووعي على التنفيذ بعمق أكبر إذا تحررت من تلك السيطرة واسترسلت مع الحواس, والانفعالات الحسّية المحدثة في الذهن.
أشياء تذهب إلى ما وراء البصر
ــ"دمشق" شكلت لك بخصوصية معالمها القديمة قبساً إلهامياً استوحيت منه مفردات التخيل والتشكيل البصري، كيف تجمع هذه المفردات، وما هي مراحل البداية في رسمها على سطح العمل؟
"دمشق" مشهد متدفق متبدل مثير للدهشة، يجعلني أعشق الأشياء التي تذهب بي إلى ما وراء البصر، أسواقها ومعالمها الأثرية تثير في نفسي روائح وعواطف ومشاهد تحرك أجزاء معتمة في اللاوعي، تطفو في الذاكرة وتشعرني بأن هناك شيء جديد بدأ يولد في ذاكرتي وعلي أن تستثمره وأخرجه إلى العالم.
ــ الفن التشكيلي حالة معرفية تنقل الحس الوجودي من الواقع المألوف إلى واقع آخر متخيل أكثر غرابة ويمس مكنون الفنان وتصوراته، ما قراءتك لهذه الحالة؟
هدف التشكيل بشكل عام دون النظر في مذاهبه، تصوير مشهد جديد للعالم يشكل ردة فعل إنسانية على الطبيعة بكل تجلياتها وصورها، ولا يستطيع أحد تبني ردة الفعل هذه إلا إذا هضم المشهد البصري الذي يراه بدراية ووعي.
ــ ، ماذا يتطلب برأيك تحريض النفس على الفعل والعقل على التأمل ؟
يتسم الرسام بحساسية مفرطة في رصد الأشياء التي يمر عليها الآخرون ولا يعيرونها اهتماماً وتستوقفه..هذه الوقفات تختزن في ذاكرته البصرية، وتصبح فيما بعد تراكمات مثقلة لهاجسه البحثي، فتسبب أزمة حقيقية له يعيشها ولا يشعر بها الآخرون، وتكون هي المحرض للتفكير والفعل الفني.
ظهورات مفاجئة لأشكال غير مألوفة
حول أعمال "البشّار"، قال الفنان التشكيلي السوري "عبد الرحمن مهنا":«"معتز البشّار": فنان واثق من ريشته، متمكن من أداءه الإبداعي في رسم الحارات الدمشقية القديمة بشفافية تشدُّ لها القلوب، وعندما تحاول أن تستطلع عالمه الداخلي والذاتي يأخذك بعيداً إلى الصوفية والتوحد مع عالم "التجريد"، فهو يبحث في مكنونات الوجود ليجعل منها فكرة تتخطى الزمان والمكان منطلقاً من خطوط البدء، وهي النقطة يرسمها ويحورها ويحيطها بفلسفة خاصة به، تتجسد في أعماله التجريدية الصوفية كما أراد أن يصفها أسلوباً فنياً مختلفاً له قيمته ووجوده».
وحول الأشكال غير المألوفة والتضاد الذي يوضحه المشهد، قال الفنان التشكيلي السوري"غازي عانا":«نكتشف في أعمال "البشّار" متعة التضاد الذي تألفه العين بسرعة وتطرب له من مجاورة لطيفة بين الضجيج الذي تحدثه بعض الظهورات المفاجئة لأشكال غير مألوفة وغريبة في هيئتها، والصمت الذي يسود المساحة الممتدة برحابة وطمأنينة وأيضاً بين اللون ونقيضه وغالباً ما نشعر بضرورة تحقيق هذه المفارقة بالنحت بين الفراغ والكتلة لما تحدثه من تناغم في الإيقاع، وحيوية في الحضور إنها متعة التلقي البصري للحظات التعبير الهاربة من خيالات الفنان وتأملاته».
وأضاف: لم يدرس الفنان الرسم أكاديمياً وربما جعله هذا في كثير من الأحيان يذهب بالمشهد بما يضم من مكونات إلى أقصى حدٍ ممكن من التجريب، بلا حواجز أو هوامش يمكن أن تعترضه أو تحد من جموح خيالاته وفضاءات حلمه، وهذا عامل برأيي يساعد المشهد على تحقيق الحضور من حيث الاختلاف عما هو سائد ومألوف من الكثير الذي نشاهده ضمن احتمالات التجريد التي باتت اليوم تضم كل ما لا يمكن تصنيفه أو نسبه إلى اتجاه أو أسلوب فني مباشر.
