موسيقا الشرق العربي: من "أور" إلى "أوغاريت" (2)

  كمال شاهين - اللاذقية

 

الغناء الإنساني... معجزة الحنجرة

متى ظهر الغناء أول مرة؟

الغناء هو إنتاج صوت بنغمات موسيقية مضمنة فيه ومقبولة لدى الأذن البشرية، هذا التعريف المبسط هو الأقرب إلى لغة اليوم، ولا نعرف تأكيداً جذور الغناء الأولى التي ضاعت في خضم الذاكرة الإنسانية، ولكن من المؤكد أن الغناء سبق تطور اللغة المنطوقة.

لا توجد ثقافة، مهما كانت بعيدة أو قريبة لا تغني، فالغناء لم يكن يوماً مجرد "غواية" بقدر ما كان "وٍنْسةً" واحتفاءاً بالحياة وبالآلهة، والإنسان القديم عندما اكتشف غناءه  قبل كلامه، كان يقترب في محاكاته من الطبيعة الأم والإلهة التي خرجت من رحم هيولى العالم الأول.

من المرجح، أن يكون الغناء الأول ارتجالياً وإفرادياً، وتقليداً لبعض أصوات الطبيعة، في لحظة ما بدأ الغناء يأخذ معنى، وبدأ تواصل بشري ما عبر الاستماع، ولعلها تلك اللحظة حين ظهرت اللغة فيها خارجة من نظام الإشارة إلى فرادة العبارة، ويعتقد كثير من علماء الأصول (الأنثروبولوجيا) أن تطور الحنجرة كان مفصلياً في ظهور اللغة.

إن انخفاض الحنجرة عن موضعها الذي كان أعلى من وقتنا الراهن، نتيجة مشي الإنسان على قدميه، ساهم كثيراً في إصدار الأصوات، وإذ يصدر الصوت البشري من "الحنجرة"، فإن بقية أعضاء الجسم لا تشارك في صناعته بأي شكل باستثناء الرئتين ومقدرة الإنسان على التحكم بما تقدمه من هواء لتلك الآلة النفخية التي لا يعادل حجمها أكثر من حجم علبة صغيرة من الجواهر .

ولسوء حظنا (ويمكن لحسنه) فإن الحنجرة البشرية لا تحتوي عظاماً، بالتالي لا تقدم اللقى الأثرية أي دليل مادي ملموس عن الجهاز الصوتي لإنسان ما قبل التاريخ ولا لما بعد التاريخ أيضاً، إضافة إلى جهلنا فيما إذا كان هناك فروق بين الجنسين صوتياً (وهو المرجح)، خاصة في ظل تنوع حجوم الأجناس البشرية سابقاً، فالسلافيين أجداد الأوربيين مثلاً كانوا يتميزون بكبر حجم الجثة، وقياساً بحجم فك الإنسان الذي عثر عليه في "ألمانيا" عام 1909، وعمره أكثر من 35 ألف عام كما ذكرت الأبحاث، فإن حجم الفك الحالي يعادل حجم نصف فك ذاك الجد الأوروبي.

وبناء على معرفتنا ببعض أنماط الغناء لدى الشعوب البدائية (كتلك التي تعيش لحد الآن في غابات الأمازون) فإن السيناريو المحتمل لتطور الغناء يبدأ مع أنماط لحنية بسيطة أحادية تقوم على عدة نغمات، ودرجة المطابقة بين عدة أفراد يغنون معاً قد تكون حدثت لاحقاً، كالمطابقة بين القرار والجواب في العزف الكورالي مثلاً، ويتضح ذلك جلياً في السلم الموسيقي البابلي الذي كان في معظمه ثلاثياً وأحياناً ثنائياً ثم تطور تدريجياً ليصبح سباعياً وتساعياً .

هذه الأنماط اللحنية البسيطة تؤكد أنها أولى الأدوات اللحنية التي استخدمت لإبداعها، وهي الآلات النفخية، أي تلك التي تستخدم النفخ من الرئتين مع توزيع النافخ لهواء الرئتين على اللسان ومن ثم مدخل الآلة النفخية، التي يختلف استقبالها للهواء وتوزيعه حسب طريقة صنعها.

لماذا كانت الآلات النفخية هي المبتدأ الموسيقي في العالم؟

الأمر لا يحتاج إلى كثير فلسفة حتى نعرف الجواب، فمحاكاة الإنسان للطبيعة هي النقطة الأولى في مسار تطوره وتحقيقه اللحظة الحضارية المستمرة منذ عدة آلاف من السنوات بتصاعد واضح، فحتى اليوم ما يزال العلماء في أفكارهم يرجعون إلى تقليد الطبيعة، فقد تم تصنيع الطائرة العمودية (الهيلوكوبتر) مستفيدين جداً من "اليعسوب" الذي يقلع من مكانه عمودياً ويهبط بنفس طريقة الطائرة العمودية، كذلك الحاسب الذي يحاكي في كليته جسم الإنسان وعقله تماماً.

الموسيقا الأولى التي ماتزال الطبيعة تعيد عزفها إلى اليوم هي موسيقا القصب والدفلى والأشجار المفردة والغابات، يعرف هذه الحقيقة أبناء الريف والرعاة في الجبال وفي البوادي، وهي نفس النبع الذي نهل منه الإنسان القديم موسيقاه، فحتى وقت قريب كان هناك في الساحل السوري أشخاص يعزفون أشجى النغمات على قطع مسطحة من الأحجار كان يتم تصنيعها يدوياً، وللأسف الشديد لم يتم توثيق هؤلاء الأشخاص فقد رحلوا إلى عالم آخر.

تورد بعض الأبحاث الغربية، أنه تم العثور في ألمانيا على قطعة من العظام يبلغ طولها حوالي العشرة سنتمترات، عليها ثقبين أماميين وآخر خلفي، يبلغ عمرها حوالي 35 ألف عام، قد تكون أقدم آلة موسيقية نفخية قد تم العثور عليها، ولو أنه يصعب الجزم كلية باستخدام هذه القطعة العظمية كناي أو كمزمار نفخي، إلا أنها بمطلق الأحوال تشير إلى "شيء" موسيقي ربما كان يعزف عليه إنسان "النياترندال".

قد يكون الإنسان القديم حتى حقبة استقراره قد حاول عزف موسيقا من نوع ما مستخدماً مختلف الأدوات التي كان يتعامل معها حياتياً، وقد يكون صنع لنفسه خصيصاً هذه الأدوات، بأي حال، فإن الدلائل الأثرية قدمت عدا عن الآلات النفخية أنواعاً أخرى، أقربها إلينا البوق، الذي كان يسهل صنعه من العظام، وأصعبها الآلات الوترية التي استغرق ظهور أولها (الكنارة) وقتاً لا بأس به في تاريخ الإنسانية، وإنه لتسجل لحضارة المشرق العربي هذا الاختراع العبقري.

بدء الإجابات والأسئلة أيضاً:

في الستينيات من القرن الماضي بدأت بعض الإجابات عن أسئلة التدوين الموسيقي بالظهور من المقبرة الملكية في "أور"، في "العراق"، تلك المدينة التي صدمت العالم بما قدمته مقبرتها الملكية من كنوز معرفية وأسئلة وجودية سوية، فقد عثر فيها على "كنارات" ملكية مذهبة إضافة إلى شروح مكتوبة بالمسمارية لأوتار الكنارة وطريقة دوزنتها، فوق ذلك تساءل الكثيرون لماذا يوجد في المقبرة جثامين لأناس كأنهم في حفلة لم تنته بعد، وهم بكامل أبهتهم الملكية؟

وفي "بابل" كانت هناك مفاجأة من نوع آخر، رقم مسمارية تذكر أسماء أوتار الكنارة، وتذكر الأبعاد التي "تدوزن" بها الآلة إياها، إذاً فقد كان هناك تدوين موسيقي ولم يكن الأمر اعتباطاً، والأمر الأكثر مفاجأة وجود سلّم موسيقي "بابلي" ثنائي النغمة وثلاثي ورباعي وسباعي وحتى تساعي، كما يشير إلى ذلك الباحث العراقي "سلام طه"، ثم جاء اكتشاف نوطه "أوغاريت" ليقلب الصورة رأساً على عقب.

هذا الطيف الواسع من الأدوات الموسيقية بأنواعها المختلفة من نفخية ووترية وقرعية، إضافة إلى الأغاني التي اكتشفت على الرقم والألواح المكتوبة بالمسمارية، خلق تساؤلات إضافية عن الوقت الذي بدأ فيه الإنسان الأول بالغناء.