موسيقا الشرق من "أور" إلى "أوغاريت" (3)

الناي والشبّابة من رحم القصب

  كمال شاهين - اللاذقية

مقدمة:

كان في "بسنادا" (من أحياء اللاذقية الآن)، أواخر العقد الماضي، عاشقٌ، وكما يقال في العامية هنا " بياخد من إجرو" أي أن مشيته عرجاء بما لا يغري الفتيات، رغم أن وجهه كان طبيعياً، هذا العاشق بقي إلى رحيله قبل بضع سنوات يقبع كل يوم ما بعد منتصف الليل على سطح منزله، ويأخذ بعزف أشجى النغمات على ناي صنعه بنفسه، تعترف إحدى الصبايا بقولها "كثيراً ما أبكى صبايا القرية في لياليها ولياليه الحزينة"، إلى اليوم لم نعرف من سببت له كل هذه "النايات الحزينات".

رحلة مع النايات إلى النيل

كانت الآلات النفخية هي الآلات الأولى التي اخترعها الإنسان، ولذلك أسباب تتعلق بسهولة صنعها أولاً، وتوفر مادتها الأولية أيضاً، وعدا عن ذلك، فإنه من السهولة بمكان إصدار الأصوات فيها دون أن يعني ذلك بالطبع موسيقا ذات هارموني معين بمعناها المعاصر.

والعلاقة بين الآلات النفخية وعازفيها تتجسد كأبهى ما يكون في علاقة عازفي النايات بناياتهم، وهذه العلاقة الوجدانية جداً، يعرفها كل من عشق ناياً وعرض عليه بيعه بأعلى الأثمان فرفض ذلك سعيداً، هذه العلاقة أيضاً تتمثل في أقصى حالاتها بأن يربي العازف قصبةً ليصنع منها ناياً فيتعهدها بأحسن الرعاية ليكون لديه ناي لا يضارع.

في تجربة حديثة لإنتاج موسيقا مطابقة للألحان القديمة، قامت جامعة "القاهرة" بالتعاون مع عازف الناي المعروف "محمود عفت"، مع الباحث الأميركي "روبرت كربس" بتجربة العزف على أحد النايات الخمسة المكتشفة في المقابر المصرية في عهود مختلفة الأسرات يتراوح تواريخها بين 5000 إلى 1200ق.م، حيث كان هذا الناي من أكثرها سلامة بعد ترميم دقيق له، وبالفعل تمكن العازف المصري المتفرد من العزف على ناي يرجع تاريخه إلى 3400 سنة، وعزف عليه عدداً من المقطوعات تتوفر على الشبكة العنكبوتية.

تطورت التجربة إلى مشروع مصري مستقل قامت فيه الجامعة بإنتاج نماذج مطابقة لتلك النايات لاكتشاف السلم الموسيقي الفرعوني، وقد صنعت النايات من قصب النيل وفق قياس دقيق جداً، أفضى عند العزف عليه من قبل نفس العازف ثم عازف الناي المعروف أيضاً "رضا بدير"، إلى التعرف على إمكانية إنتاج سلم موسيقي متعدد الدرجات، من المفرد النغمة حتى السباعي تبعاً لطول الناي والبعد بين الثقوب وقطر الثقوب نفسها، (سباعي راست، ونهوند، وسيكا)، وقد خلص المشروع إلى أن الفراعنة عرفوا السلم الموسيقي قبل "فيثاغورث" بأكثر من 1200 عام، وأن الأخير سبق له وعاش في مصر لأكثر من اثني عشر عاماً تعلم فيها الموسيقا كما غيرها من علوم، خاصة الرياضيات والصفر من بينها، ونقلها إلى اليونان.

لا يختلف السلم البابلي السباعي عن الفرعوني في شيء، فكلاهما يستمد نغماته من التوزيعة الأساس للسلم المعاصر نفسه "صول لا سي"، مع تنويعات على الخماسي والسداسي، وبعض هذه النايات كان متطابقاً مع نايات المنطقة الرافدية، لذلك لا نستغرب أبداً وجود تبادل في التأثير بين المنطقتين.

الناي والشبّابة أول الآلات الموسيقية

للناي في المشرق حضوره الكبير، من مصر إلى الصين مروراً بفارس موطنه الأصلي كما تشير بعض الدراسات الغربية، ففي الصين عثر أيضاً على مجموعة من النايات التي تعزف السلم الموسيقي المعاصر بتدرجات ومقامات مختلفة أيضاً، وهي تؤدي أكثر من 400 هزة كما تسمى نغمات الناي.

قيل إن أصل كلمة "الناي" سومري بمعنى الحزن، وقال آخرون أن الاسم يعني "القصب" بالفارسية، كما يقول الدكتور "نبيل عبد مولاه" اختصاصي الموسيقا من "تونس"، والناي هو الأكثر شيوعاً في الفرق الموسيقية، وقد أثبت حضوره عبر الزمن لما لصوته من خصوصية بين الآلات، فهي آلة العازف الاحترافي.

يتألف الناي الحالي من ستة ثقوب من الأمام وثقب خلفي من الوراء، وهي تختلف بأبعادها عن الشبابة وبطريقة إصدار الصوت، وتتألف من تسع بكرات تسمى البكرة الأولى من جهة الفم (خزنة) وهذه البكرات تطول وتقصر حسب دوزان كل ناي وطبيعته الصوتية، وعادة ما يكون هناك "طقم" مع العازف، فيه ناي أساسي (ري: دوكاه)، ونايات مساعدة للطبقات الأخرى (راست، بوسليك، جهار كاه، نوى، حسيني، عجم. الخ)، وهذه النايات المساعدة تمثل كل واحدة طبقة صوتية، فهي مثل أوتار العود تقريباً (من حديث لعازف الناي السوري "علي عيسى").

للناي حضوره التاريخي المهم جداً في الشرق العربي إلى اليوم، وهو يستخدم في الاحتفالات الشعبية والرسمية على حدّ سواء، وقد اختفى الناي من الفرق الموسيقية العربية حتى مطلع القرن التاسع عشر حيث أعاد الموسيقي السوري الكبير "علي الدرويش" الحياة إليه، وقد أخذ أصوله من العازف التركي المولوي "شرف الدين بك" شيخ الطريقة المولوية التي لا تزال لليوم تستخدم الناي في رقصاتها تيمناً بجلال الدين الرومي، وهو ـ أي الناي ـ عنصر أساسي في رقصات المولوية.

الشبّابة... آلة الراعي وقصب العشق

من الآلات النفخية الأخرى التي حافظت حتى الآن على وجودها "الشبّابة"، وهي آلة نفخية بسيطة مثل الناي، تصنع من شجيرة ( الدفلة) حيث يكون إخراج الصوت فيها سهلاً، وتثقب بين خمس إلى ست ثقوب أمامية وثقب خلفي، ويتراوح طولها بين عدة سنتمترات إلى ما يقرب من 30 سم، وتعتبر من الآلات التي يحتاج العزف فيها إلى ضبط النفَس، ونغماتها شجية بسيطة، وأغلبها على مقام "الكرد" وهو نفس مقام "نيد قبلي" البابلي تقريباً، ولا تتجاوز نغماتها السبع نغمات، ومعنى الكلمة من السريانية من كلمة "شبُبُوتا"، وهي قريبة من الكلمة العربية "التشبب" وهي تعني الحب والتغزل بالمرأة التي قد تكون راعية.

يعتقد أن أقدم شبّابه أصيله تم العثور عليها كانت في العراق، ويعود تاريخها إلى سنة (2450 ق.م)، كما تم العثور على آلة الشَّبَّابَة في الآثار المصرية وفي الموصل وغيرها، وتختلف الشبابة عن الزمر والمزمار في النهايات والأشكال وأنواع المقامات التي تعزفها، وقد ورد ذكر "الزمر" عند الجاحظ وابن خلدون وغيرهما كآلة نفخية مستخدمة في المجتمعات الإسلامية، كما تذكر "الشبّابة" أيضاً في قصة الحروب الطروادية الإسبارطية.

تروي الحكايات أن جنود اسبارطة ولإضفاء مزيد من البهجة على حفلاتهم دربوا الجياد على الرقص والتدحرج على الأرض باستخدام الشبابات، وعندما هاجموا مدينة كروتون (في شمال إيطاليا)، بدأ أهالي المدينة بالعزف على الشبّابات مما جعل الأحصنة ترمي راكبيها، وهكذا قضى المحاربون ذبحاً على إيدي من هاجموهم (من الإلياذة).

إذا فإن الآلات النفخية كانت هي البداية في سلسلة طويلة من الآلات الموسيقية، وهذه الآلات النفخية تعددت أنواعها في المنطقة المشرقية، فعدا عما ذكرنا، هناك آلة نفخية اسمها "المنجيرة"، وهي من مشتقات الناي والشبّابة، وغالب من يستعملها هم الرعاة في الريف والجبل والبادية، وهذه "المنجيرة" تصنع من أي قصب متوفر، وتصدر ألحاناً بدائية شجية، وعلى ما أعتقد فإنها تكاد تندثر دون وجود أي توثيق لها في المتاحف ولا الدراسات الموسيقية.

المراجع:

1.    الحياة الموسيقية، الأعداد الأول، و48، 23، وغيرها. منشورات وزارة الثقافة السورية.

2.    صبحي أنور رشيد، الآلات الموسيقية في العصور الإسلامية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق، ص219. 1975.

3.    الإلياذة، هوميروس، والغصن الذهبي لسير جيمس، ومراجع أخرى.