ميلاد باهي:الإرتجال والتقسيم تجسيد العازف لأفكاره الموسيقية

9/6/2011

ما إن يمسك عوده حتى يأخذك إلى عوالمه الخاصة، "ميلاد باهي" عازف شاب تخرج من المعهد العالي للموسيقا، وشق طريقه كعازف سولو، وكعازف في فرق متعددة، إضافة إلى اهتمامه في الغناء والعزف السرياني   كل هذه المشارب الموسيقية كانت في حديث موقع المفكرة الثقافية مع الفنان باهي:

*العود تلك الآلة المرتبطة بمزاج الشرقيين، ما هذا السر الكبير وراء هذه العلاقة الوطيدة والتي جعلت العود الآلة المُفضلة عند العرب برأيك؟

**السر موجود في فهمنا الخاطئ للموسيقا الذي أدى الى ظهور مفردات مثل المزاج والسلطنة، في الحقيقة هذا سؤال يحوي بين طيّاته إشارةٍ الى جدلية أو مشكلة اعتدنا معاملتها روتينياً ففقدنا الرغبة تطويرها .. وربما لم نشعر بوجودها أصلاً كونها تُرضي لنا ما نسميه "مزاج"  فالموضوع ليس تعلّق الشرقيين بآلة موسيقية كالعود بقدر ماهو تعلّق معتاد بحالة السَلْطنة التي تلي استماعنا لجملٍ موسيقيةٍ تطريبيةٍ أعزفاً كانت أم غناء، حيث تختلف وسائل التعبيرعن حالات السلطنة تلك ما بين مستمع عادي رَبَطَها مع ما يناسب مزاجه كالنرجيلة والمازة والمشروب، وما بين مستمع مثقف رَبَطَها بمستواه الفكري كضرورة وما بين مختص يحاول أن يُروّض تلك النشوة ليبعدها عن مفاهيم السَلْطنة والمزاج التي تحجمها وتحدّ من تطورها علمياً، وبما أن الغالبية هم ليسوا من المختصين فيصعب عليهم تَقَبّل ما هو غير مألوف لذاكرتهم السمعية وهذا الرفض ما قد يُحبط محاولات البعض من المختصين لإخراج مفهوم الموسيقا الشرقية من محيط المزاج..

وأعتقد أن أفضلية آلة العود دون سواها لدى العرب تعود ربما لقدمها وصغر حجمها ووزنها قياساً بباقي الآلات الأمر الذي جعل منها الخيار الأنسب كإقتناء وبعد أن اقترن اسمها بموسيقيين لامعين من فرس وعرب كـ زرياب واسحق الموصلي وزَلْزَل، إضافةً لتلك الحالة الدافئة لإحتضان العازف لعوده أثناء العزف.

*أنت تأثرت بموسيقا مدينتك القامشلي، وأول الأغاني التي حاولت عزفها كانت التركية القريبة جداً منك، إلى اي حد ساهمت البيئة التي نشأت بها في تحديد خطك الموسقي فيما بعد؟

**طبعاً لا شك أن بيئة المنشأ تلعب الدور الأكبر في تحديد ملامح الشخص ككل بعد إضافة العامل الوراثي أيضاً، ومدينة القامشلي غنية بالتنوع العرقي الموجود من سريان وكلدان وأرمن وآشوريين وأكراد وعرب .. وهذا المزيج أَنتج كماً ثقافياً متمثلاً بلغات عدة ولهجات وعادات وفنون مختلفة يجمعها قاسم مشترك وهو التأثير التركي الواضح لقرب القامشلي من المدن التركية، فمن أمام هذا المشهد الجميل حُدِّدَت خطوطي الأساسية الموسيقية لاسيما أن أجدادي لوالداي هم من السريان الذين عاشو معظم حياتهم في مدنٍ تركية.

*يقولون أن الموسيقي هو نتاج ما سمع وتشرّب من ثقافات متنوعة، الى اي حد ينطبق هذا القول عليك؟

**هذا الكلام صحيح ولا ينطبق علي فقط بل على كل موسيقي أيضاً، وهذا الموضوع دائم التطور لأن الموسيقي بطبيعته دائم الإطّلاع على مُختلف الثقافات، وكل مرحلة من حياته لها وعيها المتناسب طرداً مع استفادته لما سمع وتشرّب، فما سمعته من موسيقا كلاسيكية أو موسيقا الجاز لم أكن لأستعيض عنه بموسيقا صينية أو هندية وعكس ذلك صحيح.

 *العود في الغناء العربي كان آلة مرافقة لكن العديد من العازفين البارعين قدموه كآلة سولو، فهل تأثرت بأي من هؤلاء العازفين؟

**العود كان ولا زال مرافقاً للغناء رغم ظهوره كسولو ولكن هناك فوارق بكيفية تقديمه تبعاً للمدرسة الموسيقية، نذكر منها المدرسة التركية التي لانستطيع تجاهلها لما لها باع طويل في الموسيقا الشرقية والمدارس العربية على اختلاف البلد، ففي المدرسة التركية دورآلة العود لا يقل أهمية عن دور الغناء اذا ما قدما سوية عملاً غنائياً حيث يتشاركا في أصغر التفاصيل الموسيقية والصوتية وشدتها، أما في باقي المدارس العربية فآلة العود لا تتعدى كونها آلة مرافقة بالمعنى الحرفي للكلمة اذ يقتصر دورها على اعطاء الطبقة الصوتية والحس الايقاعي للمغني، ونستطيع أن نلتمس ماسبق بالرجوع الى التسجيلات الخاصة بذلك. السبب اننا نملك إرثاً غنائياً كبيراً ولانملك إرثاً موسيقياً.  إن أكثر مَن أعجبني من بين العازفين السولو هم جميل بشير ومنير بشير(العراق) ومحي الدين حيدر وتشينوتشن تانريكورر ويورغو باغَنوس.(تركيا).

*بين "الارتجال" و"التقاسيم" فوارق تظهر بالعزف المنفرد، هل هناك قواعد ونصوص تكتب لذلك؟ وكيف تتعامل أنت كعازف مع كل منهما ؟

 **الإرتجال والتقسيم مفردتان لغرض واحد وهو تجسيد العازف لأفكاره الموسيقية بعزفها دون ضابط زمني محدد. ففي الآونة الأخيرة شاع مصطلح الإرتجال بدل التقسيم كنوع من تبرير ضمني لشطحات العازف بخروجه عن القوانين جهلاً بها والمُسّلّم بها موسيقياً أثناء التقسيم، فأصبح يُطلق على ماهو ارتجال كلاسيكي يشبه الأسلوب التقليدي القديم بـ: تقسيم، وعلى ماهو ارتجال غير معروف توجهه سوى اسمه السلّمي بـ: ارتجال. أما بالنسبة لقواعد الإرتجال او التقسيم، فهناك قواعد أساسية وعامة بخصوص سير عمل المقام الموسيقي تُجنّب المستمع حالة الملل اذا التزم بها العازف وتخلّى عن تعاطيه الإعتباطي مع علم المقام كون الإرتجال يُصّنَّف كتأليف موسيقي آني لا يحتمل غياب أي من عناصره، ولكن القواعد ليست صارمة تؤطر من خيال العازف و هناك ماهو مُفَضّل وغير مُفضّل ومتوافق صوتياً أو لا،وهذا هو الفرق بين عازف على دراية تامة بالإنتقالات المقامية واقتناص اللحظات المناسبة لذلك وبين عازف آخر لا دراية له حتى لو امتلك تقنيات رائعة.. فليس من السهل أن يكون الارتجال مُقنعاً لحظة بلحظة إلا اذا غاص صاحبه في مخزونه وعبّر عن مكنوناته بعيداً عن عشوائية الطرح..

 من خلال استماعي ومراقبتي لكبار العازفين وأساتذة المقام الموسيقي أدركت أن الإرتجال يختلف بأدائه وأفكاره عما إذا كان ارتجالاً ما قبل أغنية أو مجرد وصلة بين مقطوعتين موسيقيتين أو في منتصف عمل موسيقي أو بغرض الإرتجال الطويل، فالإنتقالات المقامية الى أخرى ضمن المقام الواحد ليست مُحبذة أثناء الإرتجال قبيل أداء أغنية مثلاً، ولكنها ضرورية في حالة الإرتجال الطويل في أمسية سولو موسيقية.. وعلى هذا الأساس أتعامل مع الإرتجال، بحسب ما يناسب حالة العمل الفني.

 *  العديد من أبناء جيلك وحتى أنت تأثرتم بالأسلوب التركي ماسبب ذلك حسب رأيك؟

**بالنسبة لي يعود هذا التأثر لعواملٍ وراثيةٍ وللبيئة التي نَمَوْتُ فيها، أما كحالة عامة فقد ازداد هذا التأثر بشكل ملموس خلال العشرة أعوام الماضية حتى الآن لأسبابٍ عدة ومنها الإنفتاح الثقافي بكافة أشكاله  كالإنترنت وإمكانية الحصول على التسجيلات الصوتية والمعلومات في المنتديات الموسيقية الالكترونية وتوفر الإسطوانات الموسيقية الليزرية بالأسواق لشتى أنواع الموسيقا في تركيا، وقيام العديد من ورشات العمل الموسيقية بشكل دوري في المعهد العالي للموسيقا تحت إشراف موسيقيين أتراك مما أتاح الفرصة للجميع التعرّف على ميزات هذه المدرسة، وخاصة أن جميع الأعمال الموسيقية في تركيا مؤرشفة أبجدياً كالنظام المُتّبع في اوربا (تسجيلاً وتدويناً موسيقياً)، ووجود مناهج وفيرة لتعليم العزف على الآلات الموسيقية الشرقية الى حد الإحتراف وموضوعية طرق الإرتجال وغنى سلالمهم الموسيقية الناتج عن النظام المُتّبع /الكومة الصوتية/. كل ما سبق كان من شأنه أن يوجه أنظار الغالبية من الموسيقيين والعازفين العرب الى الموسيقا التركية وأساليبها التي تُلّبي أفق تطلعاتهم للتطور الحديث والذي لا يمكن بلوغه حالياً في الموسيقا العربية لافتقادها البعض المهم من عناصرها وخاصةً بعد التغيير الذي أُجري عليها في مؤتمر الموسيقا العربية بالقاهرة 1932، تلك العناصر كانت ذاتها التي تتميز بها الموسيقا التركية وأساليبها الآن، كالنظام الصوتي ودوزان الآلات..الخ    

 *  الفنان "نصير شمة" أبدى اعجابه بعزفك حين زرت القاهرة، فإلى إلى حدّ تطورت هذه الحالة ؟

**في عام 2007 توجهت الى القاهرة قاصداً التعرف على الأستاذ نصير شمة، وقد كانت فرصة جيدة لي أن أُسمعه عزفي وقتها، لينتهي ذلك اللقاء بإتفاق دراستي تحت إشرافه حيث اختزل لي مدة الدراسة من سنتين (نظام الدراسة في بيت العود) الى ستة أشهر بناءً على رغبة منه، حيث أنجزت منها ثلاثة أشهر في حينها ولم يتسنى لي أن أُكمل الثلاثة الباقية لإنشغالي في تخرجي من المعهد العالي للموسيقا بدمشق وسفري خارج البلاد بعدها، على أمل أن يتم ذلك عندما تسنح الفرصة، طبعاً تعلمتُ الكثير بالقرب من شخص نصير شمة اذ له فضلٌ لا يُنسى رافق إحدى مراحل تطوري فيما مضى كعازف..

 *تحدث الفنان شمة عن افتتاح فرعٍ لبيت العود العربي في دمشق، أين أصبح هذا المشروع حالياً؟

**حسب معلوماتي كان من المقرر افتتاحه في العام 2008 برعاية وزارة الثقافة في أحد أحياء دمشق القديمة ويُقال أن التأخر سببه البحث عن دار يناسب المواصفات المطلوبة، وأظن أن وجود معاهد موسيقية كمعهد صلحي الوادي وفروعه بباقي المحافظات ومعهد شبيبة الأسد والمعهد العالي للموسيقا في دمشق وكلية الموسيقا في حمص جعل الشروع في افتتاح فرع لبيت العود ضرورة غير مُلّحة في الوقت الحالي لما تقدمه تلك المعاهد لآلة العود وغيرها، رغم أن التنوّع مهم ويعطي مجالاً لخلق الجديد.

يذكر أن الفنان "ميلاد باهي" مواليد "الحسكة" /1982/ خريج المعهد العالي للموسيقا بدمشق /2008/ شارك في عدد الأمسيات الموسيقية في دار الأوبرا بدمشق ومسارح أخرى بمختلف المحافظات السورية كما شارك في أمسية موسيقية في "بروكسل" بلجيكا /2008/، وفي مهرجان الشرق الأوسط في "مونتريال" كندا /2009/ كما شارك في عدد من ورشات العمل مع عازفين أتراك في سورية وتركيا.