"ناثر حسني": الطبيعة إلهام خارق لكل إنسان متبصر
علاء الجمّال:
"ناثر حسني" فنان تشكيلي سوري، عرف عنه التفوق في مجال الإبداع وإثبات الوجود، والقدرة على تكوين رؤى مستلهمة من الطبيعة والتاريخ بلمسات جميلة الطرح، غنية اللون، تخلق في النفس الصفوة والتفاؤل..
eCalendarكان له مع الفنان "حسني"هذا الحوار، مستوضحاً منه سمات الرؤية واللون في أعماله المعاصرة، وذلك أثناء لقائه في /18/11/2008/ بغاليري "فري هاند" بمنطقة "الجسر الأبيض" "بدمشق".
ــ ما مفهومك للرومانسية ضمن التشكيل الواقعي في اللوحة المعاصرة؟ وماذا عن تأثرك بها؟
المدرسة "الرومانسية" أتت بعد المدرسة "الكلاسيكية"، وأول من أسس لوجودها الفنان الفرنسي "أوجين دولا كرواه"، وأعتبره أستاذي الروحي، وخلال دراستي للوحاته الرومانسية أفدت من أسلوبه في التأثير على أعمالي.. كما أنني أحببت هذه المدرسة وفيها الكثير من شخصيتي وفكري الذي يجول بين الواقع والخيال المجنح، والإحساس باللوحة الرومانسية يختلف عن غيرها من الأعمال الفنية الأخرى، لأن الفنان يضع فيها بصمته الحسية والإرادية و اللاإرادية والانفعالية..
جميع أعمالي السابقة تحمل الحس الرومانسي، مثل المعارك الحربية التي تمس التاريخ العربي في "سورية" مثل: فتح "دمشق" وواقعة "ميسلون"، واللوحات الاجتماعية كلوحة "نساء دمشقيات"، ولوحة "رسالة الغفران ـ لأبي العلاء المعري" وهي صيغ فلسفية حملت هذا الحس بالنسبة لرسوم الأِشخاص والجلسة والتعبير الإنساني، ويمكنني أن أختصر "الرومانسية" بكلمات قليلة وهي "الخط والظل والنور والحركة والانفعال والإبداع و الخيال".
ــ ركزت في تجاربك الحديثة على مزج الألوان مع بعضها البعض بشكل معاصر وأسلوب رومانسي، دعنا نتحدث عن هذا الجانب؟
خلال /40/ عاماً من الرسم المتواصل للطبيعة والأشخاص والمواضيع المتنوعة.. أحببت أن أحدث نقلة نوعية للحداثة، فبدأت العمل على رسم مواضيع نوعية بألوان دافئة توحي للناظر بأن هذه اللوحة "رومانسية" لكن بأسلوب معاصر اعتمدت فيه على وضع لمسات لونية عريضة متناغمة مع بعضها البعض، ومن يمتلك خبرة علوم اللون والحركة فيه يعرف أن هذه الأعمال فيها الروح "الرومانسية" والتناغم اللوني. وأنا في النهاية لا أريد أن أقدم عملاً تجريدياً متأثراً بالغرب، وإنما أريد أن أقدم عملاً حديثاً، متأثراً بما اختزنته في عواطفي وأحاسيسي من أعمال سابقة نفذتها.
ــ الرومانسية كأسلوب معاصر مبتكر، كيف وجدتها كتغيير جمالي في عملك التشكيلي؟
عندما بدأت الأسلوب الجديد كان تحدياً لنفسي لأرى ماذا اقتبست من عالم الألوان ورسم الواقع الذي أراه مدرسة ونظام رياضي بحت، يحاسب الفنان على أي خطأ يحدث معه، وخاصة في رسم الأشخاص والملاحم الإنسانية.. فعندما بدأت الرسم والتلوين برومانسيتي الشخصية والحسية والعقلية شعرت أن يداي المكبلتين بقيود فنية ونظم علمية.. قد انطلقتا وفكت هذه القيود وباتت الفرشاة ترقص على سطح اللوحة بانفعال مباشر وحسي جميل، تعجز عن وصفه الكتابة لأن مشاهدة اللوحة غير قراءة الأسطر.
الخيال إبداع لا متناهي
ــ ماذا عن مواطن الإيحاء الإبداعي التي حلت ملهمة في لوحتك؟
قلت في حديثي عن "الرومانسية": أن الخيال المجنح يشطح في أسفاره، فإذا كان الرسم الواقعي يوصلك إلى الغيم، فإن "الرومانسية" توصلك إلى أعالي السماء، فالخيال عنصر هام من عناصر هذا الإبداع اللامتناهي، ولا يوجد أجمل وأسمى وأرفع وأروع وأنقى وأطهر من أن تصل بروحك وعملك إلى فنون الآخرين بلوحات ترسمها بصدق وخيال سابق الرياح وعانق الغيوم وقبل السماء.
فقد أرسم في لوحتي حدثاً ما أو وجه رجل أو امرأة أو الطبيعة بكل فصولها، وإذا أردنا أن نتكلم عن كل فصل فسوف نتكلم عن موسوعات لا نهاية لها، لأن الطبيعة وحدها إلهام خارق لكل إنسان متبصر، وأرى فيها آيات إعجازية وضعها الإله ليقتبس منها الإنسان معنى الوجود الطاهر، لأنها طاهرة وصافية فيها النقاء والروعة والمزاجية بين فصل وآخر.
رسمت "دمشق" القديمة لمدة /40/ عاماً، وثقتها بلوحات زيتية ومائية ودراسات غير معدودة بالإضافة إلى مدينة "حلب" البيوت والحارات والكنائس والجوامع والأوابد الأثرية رسمتها من الداخل والخارج كذلك الفسحات السماوية في البيت الدمشقي.. فهذا لا شك ترك لي مخزون كبير جسدته في أعمالي الحديثة.
ــ قلت في معرضك في غاليري "فري هاند": «عندما أرسم ليس هناك أغلال تكبل مساري التشكيلي، فأشعر نفسي كأمواج البحر متأرجحاً بين الصعود والنزول»، أوضح لنا هذه الرؤية؟
الحالة النفسية تلعب دوراً هاماً في شخصية أي فنان، وأنا في معرضي السابق عرضت مجموعة من الأعمال الحديثة.. وعبرها تركت ليدي الحرية في التعبير، ترسم كما تشاء بأسلوب فكري وعلمي في منحى "الرومانسية" بالإضافة إلى المخزون الثقافي حتى أخرج بعمل متماسك رفيع المستوى على الجانبين الدولي والعالمي، وهذه الحرية جعلت نفسي متأرجحة كأمواج البحر بين النزول والصعود.
ــ انعتاقك خارج الشكل الواقعي، ونظرك في مكنياته اللامرئية، وإعادة صياغتها في لوحة؟ فعل بسيط يحسنه أي فنان تشكيلي برأيك؟
بالتأكيد لا، لأنه لا يمكن لأي فنان أن يرسم موضوعاً متماسكاً ومتيناً إلا إذا كان لديه خبرة طويلة في العمل الواقعي، ومعرفة وثقافة وخبرة وإطلاع على الكتب العالمية والمتاحف وأعمال الفنانين.. فهناك مقاربة بين الإنسان المتمكن والمجرب.
ــ تتسم لوحتك التجريدية الكثير من المتناقضات اللونية، ما السر النبيل خلف هذا التجسيد؟
أرى أن بعض الضربات اللونية المتناقضة المحدثة أحياناً في بعض اللوحات التي أرسمها، هي لمسة لازمة لصحة العمل على مبدأ ما قاله الفيلسوف "أبي العلاء المعري" في كتابه "اللزوميات" أي لزوم ما لا يلزم، فأحياناً أرى اللوحة أنها انتهت، وأحياناً أرى أنها بحاجة إلى لمسة حمراء في زاوية من زواياها فتجعلها ترقص وكأنها فراشة على سطح الماء.
ــ أنت خبيراً في علم المجسمات النحتية وأثار دمشق القديمة، ما القيم التي حملتها من هذا العلم؟ وماذا تضيف عليه كفنان وباحث؟
الأوابد الأثرية في "سورية" لا يمكن حصرها متنوعة على مدى الزمن والأحقاب، عائدة إلى فينيقيين ورومانيين وأقواماً أخرى سادت ثم بادت، "دمشق" القديمة آبدة من أوابد التاريخ التي لا ينتهي ذكرها أبداً، ممتدة منذ القدم وحتى الأزل، بواباتها وقصورها وجوامعها وصروحها التاريخية.. توحي بالصفاء والديمومة وعظمة الفنان الدمشقي القديم، والجمال الخالد في الهندسة المعمارية القديمة.
اللمسة الفنية تمنح اللوحة قيمتها
ــ اللوحة برأيك هل هي مسطح بسيط يستطيع فيه أي شخص أن يعبر عما يريد دون الاكتراث بالأبعاد الروحية والدلالات البصرية السامية، أو أنها مسطح فيه من الصعوبة الكثير، ويحتاج الطرح اللوني عليه الكثير من الصدق والمعرفة؟
إذا لم يكن هناك إخلاص ونبل وعشق متناهي بين الذات والموضوع فالعمل فاشل، والفن النبيل قدرة إلهية وضعها خالق العباد في الإنسان المبدع، وهي أسمى وأرقى ما يستطيع أن يقدمه الفنان نفسه للناس.. أن يظهر لهم الحس العاطفي والإنساني والبشري برؤية صادقة نبيلة، من هنا يجب على الفنان أن يتعامل مع اللوحة كأنه يتعامل مع أنثى يحبها وتحبه، وهذا يغنيها بأبعاد جمالية لا حدود لها على أن يكون التعامل عائداً إلى معرفة وخبرة ودراية، والقيمة اللونية المسقطة على سطحها المجرد والبسيط يجب أن تعالج بموضوعية وشفافية متناهية حتى تكون قيمة خالدة.
ــ يعاني بعض فنانينا من الجمود الروحي، والتقولب في إطار تشكيلي محدد، ما خطورة ذلك على العمل التشكيلي برأيك؟
هناك فنانون يتقنون الرسم أسميهم رسامين، يعملون عدة معارض ويمتد بهم السن ويعرضون أسلوباً واحداً فتشعر أنك أمام لوحات متكررة وخالية من القيم اللونية.. فقط عبارة عن سطوح مزخرفة تشد عين الناظر العادي فيبهر بها، ويقول: «أنها لوحة جميلة»، ولكن اللوحة المتكاملة هي التي تتجسد بانفتاح الفكر وغنى اللون وتطور الشكل، والأهم اللمسة الفنية أن تكون بموضعها المناسب، وهي التي ترقى باللوحة إلى منزلة أكثر تأثيراً وشهرة، فإذا نظرنا إلى أعمال الفنان الهولندي "رامبرانت" نرى أن هناك لمسات فنية مثل بقع الضوء أعطت للوحة قيمة جمالية كبيرة، فاللمسة الفنية تمنح اللوحة قيمتها وتدل على تطور فكر الفنان وليس البقاء ضمن منهجية محددة، الجميل بالمبدع توافقه مع المعاصرة والحضارة.. صندوق الموسيقى القديم مثلاً ندر سامعوه بعد وجود التأثيرات الصوتية الحديثة.
لمسة تظهر جمال التكوين
حول أعمال الفنان، قال الدكتور "حيدر يازجي" رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين العرب في "دمشق": «"ناثر حسني" فنان عشق الطبيعة واللون، يجسد ما يثير هيامه، يبحث ويجرب.. صفات لازمت جميع لوحاته الانطباعية والتعبيرية والتجريدية والرومانسية، يجمعها خط واحد و هو اللون».
وأضاف: «أعمال الفنان "ناثر حسني" تعتبر نقلة نوعية وفهم جميل للشكل واللون، وصوغ اللمسة الفنية في اللوحة اعتماداً على تجارب غنية قام بها، أنه يعطي للوحته حقها اللوني، يوظفه بشكل جديد ومعاصر، يظهر جمال التكوين لديه».
ببلوغرافيا الفنان
تخرج "ناثر حسني" في كلية الفنون الجميلة ـ جامعة "دمشق" عام /1970/، وعمل فيها مدرساً لمادة التربية الفينة، وهو خبير في علم المجسمات النحتية وأثار "دمشق" القديمة، أوفد إلى "ألمانيا" الديمقراطية لتمثيل "سورية" عام /1976/، كما أجرى دراسات عليا حول الفن التشكيلي في متحف "اللوفر ـ باريس" عام /1977/، حاز خلال حياته على شهادات مختلفة تقديراً على نبوغه في التشكيل، له /26/ معرضاً شخصياً، وهو عضو نقابة الفنون الجميلة والاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب "بسورية".