"ياسر اسكيف": النقد لا يوجد كمُتفرقات بل كموقف ثقافي عام
بلال سليطين - اللاذقية
من أجوبته تكتشف على الفور نزعة النقد في داخله، وتجزم أنه ناقد، فهو يميل إلى التمرد في إجاباته، ويكثر من محاولات تصويب الواقع، حتى وإن كان النقد يشمل صفات وصفه بها شعراء ومثقفين، فهو لا يخجل من تصحيحها أو الاعتراض عليها.
الشاعر والناقد السوري "ياسر اسكيف" ضيف المفكرة الثقافية في الحوار التالي:
* كيف اهتدى الشعر إليك؟
** الهدي، والاهتداء، والهداية، إلى آخر هذه المصفوفة العرفانية التي لا تنتهي إلا بالاهتداء إلى الذات الإلهية، والاتحاد بها ربما، شيء يتناقض مع جوهر الشعر، فالشعر لا يهدي ولا يهتدي، انه الضلال منبتا ً وغاية، بل لنقل بدّقة أكثر انه تجربة الضلال، وكلّ ما قد يفعله الشعر كتأكيد أقصى على فعل الضلال هو أن يُخرج إلى الضوء ما تعتبره العتمة قسمتها أو حقها الحصري من الذات المُفردة ومن العالم، وضلال الشعر يتجسّد بأبهى وجود في منافسة الألوهة، أيّة ألوهة، لا على الألوهة ذاتها، بل بتخليص مفرداتها من براثن الغيب، وهنا لا بدّ من القول إنه لا غيب في الشعر بل في الأدوات التي تخطىء الطريق، وفي كيمياء التمثّل الذي يجري في غير شروطه، ويمكنني تصويب السؤال بتعريته من مسوحه الكهنوتية العرفانية بالقول كيف بدأت أتعاطى مع الوجود بطريقة المُختلف وكيف انتقلت بتجربة التعاطي هذه إلى حيز الاحتكاك مع الآخر، وهنا لا بدّ لي من القول بأن التشكيلات النفسية الإذعانيّة التي تلجأ إلى التحويل والاستبدال درءا ً للألم المتأتي عن الحاجة، والتي لا تقارع المُحال بل تستبدل بالمُتخيّل كل ما يحول بينها وبين تحققه، تلك التشكيلات هي الأرضية الخصبة لولادة الشعراء حيث في فكرة الاكتمال، والاغتناء، تكمن بواعث الألم، ولذا وجدتني كائن نقص بامتياز، وربما هذا ما أخذني إلى الشعر، إذا ما كنت أستحق شرف هذه التسمية.
* ما سبب انعطافك الشعري وتحولك من شعر التفعيلة إلى قصيدة النثر؟
** في السؤال إشارة إلى حركة ميكانيكية صرفة، وفيه كم كبير من افتراض دور مؤثر للإرادة في الاختيارات الفنيّة والأدبية، وهذا ما يتناقض تماما ً مع حقيقة وديناميكية الخيارات المُختلفة التي يمكن رصدها في تجربة أدبية أو فنيّة ما فالانعطافات والتحوّلات من شكل إلى آخر في هذه التجربة أو تلك، سببها الحالة التي تنتجها التحولات الجمالية والشعورية الحاصلة لأسباب عديدة في ذات الكاتب أو الفنان، وأما بالنسبة لي فلم أجد فصلا ً في يوم من الأيام بين أشكال الشعر، بل كنت أرى الفصل في الشكل الواحد على قاعدة المختلف والمغاير، فأفضل هذا الشاعر العمودي على هذا النثري، وأفضل أحيانا ً هذا النثري على هذا التفعيلي، وبالنسبة للانتقال فأراه من زاوية الضِيق بشكل ما، نتيجة لعجز هذا الشكل عن قيامه بالحمولة الجمالية التي تزدحم بها تجربة الإحساس،
* لماذا نفتقد الشاعر الطفرة، أو ما يعرف بالأسماء الرنانة شعرياً (نزار قباني، أدونيس، محمد الماغوط،. إلخ)؟
** مرّة أخرى أعود للقول بأن حدوث الطفرة، بالمعنى الإبداعي، هو أمر يتعدى الخصوصيّة الشخصيّة إلى العموميّة المُجتمعيّة، وهو إيذان بنهاية مرحلة تاريخية، يتجسّد باكتمال شكل إبداعي، أو ظاهرة إبداعية، بما فيه الأدبي والفلسفي، والفني، وما يمكن قوله باختصار عن أسباب غياب الشاعر الطفرة / الظاهرة في شعرنا السوري اليوم يعود لأسباب عدّة في مقدّمها : أن الكتابة الشعرية الجديدة، في آليات إنتاجها، كما في دوافعها، وفي تكوينها النصيّ الذي تأتي عليه، هي ممارسة مُضادّة للتأسيس، والتكريس، وبالتالي تشكيل الظواهر، أو إبراز الطفرات،
إن الشاعر الطفرة يفترض وجوده، كما يُظهرُ تاريخنا الأدبي، تزامنا ً مع إنزياحات فكرية واجتماعية ذات معنى تاريخي، أو حاملة لقيمة تاريخية، وهذا ما يفسّر انحراف نصّ الأمس عن وعيه الجمالي إلى وعي اجتماعي، أو وعي غير أدبي، بينما يصرّ نصّ اليوم على عدم ارتهانه لأية وظيفة لا جمالية، وهذا النص يمارس في رفضه هذا رفضا ً للبلاغة ذاتها، البلاغة الموروثة من مرحلة مختلفة، دون وعي حقيقي بمعنى البلاغة قد يمكنه من إجتراح بلاغته الخاصّة التي قد تمكنه من خلق مستوى رمزي يشكّل موضوع إجماع ومادّة مُشاركة، حيث الإجماع والمشاركة أساس في ظهور الشاعر الطفرة،
قارئ اليوم، وتحديدا ً قارئ الكتابة الجديدة، لا يرى في العمل الجماعي، وفي المشاريع الاجتماعية والثقافيّة الجمعيّة سوى إعادة إنتاج لهيمنة السلطة، وطمسا ً تعسفيّا ً للذات، ولخصوصيتها الفردية، وهو بالتالي قارئ لا يجتمع، ولا يمكن أن يصبح وقودا ً لأية ظاهرة أدبية، أو مُريدا ً من المريدين الذين تحتاجهم الطفرة كي تكرّس وتستمر.
إن النص الجديد قد سبق كاتبه، ولم تعد لديه القدرة في السيطرة على هذا النص، وبات ظهور الشاعر الطفرة مُرتهنا ً بحدوث التزامن مرّة أخرى بين الشاعر ونصّه، أي بين الصدفة والضرورة،
* تقول في نص لك (بشفرة الإنصاف أقطع وريد الأمل)، فهل يقطع الشاعر الأمل وينتظر الخيبة؟
** ليس الشاعر من يقطع الأمل، الأمل حقيقة لا يقطع، إنما الذي يٌقطع هو وريده، أو شريانه، أي دورة إنتاجه وإعادة هذا الإنتاج، وهذا فعل إيجابي برأيي، إذ أن الأمل خديعة كبيرة، ويعود جذرها إلى الجنّة الموعودة، المعروفة في كلّ الأديان، ونحن البشر محكومون بالخيبة وليس بالأمل كما قال الراحل الكبير "سعد الله ونوس"، وإن بدا أننا مُرتهنون للأمل فهذا بدافع من الخيبة المُقيمة والمتأصلة، الأمل ُ، من أمِل َ، أي انتظر حدوث ما يرغبه، هو نوع من الخديعة التي تفضي، على الأغلب، إلى البدء بالانسحاب من مناخ الخيبة المُحفّز إلى مناخ الحلم المُحبط، وان قطع وريد، أو شريان الأمل، لا يعني انتظار الخيبة، أو حتى القبول بها، كما يرشح من سؤالك، فالخيبة حاضرة، والأمل ليس إلا شكلا ً من الاعتلال النفسي الذي يتجسّد في الإدارة الفاشلة للخيبة في أغلب الأحيان، وهذا هو الأمل الذي أحاول قطع وريده، أقصد الانتظار المرير لعودة "غودو،"
* من خلال مرور المتكرر شعراً على جراح الحب، هل يمكننا القول أن نصك كتب لقارئ بذاته، وأين هذا القارئ مما كتبت؟
** يقول الشاعر الفرنسي " بول ايلوار " المعروف بشاعر الحريّة مخاطبا ً حبيبته " غالا " التي أصبحت زوجة " سلفادور دالي " : (كلّ ما قلته / وما سوف أقوله / هو لتسمعيه يا "غالا " / شفتاي /لا تطيقان مفارقة عينيك) ولم أجد يوما ً في هذا القول ما يتنافى، أو يتناقض، مع أن " إيلوار " كتب شعره للجميع، أي كتب شعرا ً اعتبره الجميع شيئا ً يخصّهم هم، والآخرون يتكثّفون دوما ً في شخص، أو في عدد قليل من الأشخاص، يشكّل ما تمكن دعوته رمزا ً حيويّا ً يُختصر فيه الكون كمُخاطب، أو كموضوع تأمل وحوار، كما أن الخصوصيّة تتحوّل إلى شيوع بتناسب طردي مع شدّتها، حتى ليمكن القول بأن جواز مرورها هو مناعتها وعصيانها على هذا الشيوع، وأما أين هذا القارئ مما كتبت فأراه في كلّ قارىء يرى في نصي رسالة تخصّه وتمسّ تجربته،
* هل تحب ما يقوله الشعراء عنك بأنك استطعت ضخ روح التفعيلة بقصيدة النثر؟
** أظن بأن هذا القول للصديق الشاعر والقاصّ " أحمد اسكندر سليمان " ولا أظنه موّفقا ً فيه، فلا أنا، ولا غيري قادر على فعل ذلك، حيث أن روح قصيدة التفعيلة قد استُنْفِدت ولم يتبق لها ما تحيا من أجله، وهذا ما يغفل عنه الشعراء، كما النُقّاد، وبالتالي لا يمكن ضخّها في أي دور جديد، وأما إن كان الصديق أحمد، أو غيره من القرّاء، يشعر إزاء نصوصي بشيء من هذا، فعليهم البحث عن تفسير آخر، من ناحيتي لم أفكر به من قبل.
* لماذا عملت على الانتشار كشاعر أكثر منك كناقد، رغم قلةً النقاد في سورية خلال العقود الأخيرة؟
** لم أعمل على الانتشار في أي منهما، فالانتشار له طابعه الإعلامي/الإعلاني الذي لم أجد نفسي معنيّا ً به، ربّما يعود الأمر إلى أنني فاشل أصيل في العلاقات العامّة، وربّما لأنني لم أعش في المركز الثقافي (العاصمة) أو حتى في مركز المحافظة.
* إذا ما استثنيناك وبعض النقاد القلائل (كحالات فردية)، فإننا نستطيع القول إن النقد غائب عن الساحة الثقافية السورية منذ عقدين من الزمن، فإلى ماذا تُرجع هذا الغياب؟
** بدءا ً يمكنني القول بأنه ما من إجابة على سؤال كهذا يمكن أن تحيط إلا بالقليل القليل منه، وهذا الأمر يتعلق ببنية السؤال ذاته، إذ أنه، أي السؤال، يفترض بأن نقدا ً قد كان، ولكنه غاب، وهذه بحدّ ذاتها إشكالية، إن الذي غاب هو شكل من الحياة الثقافية ( الفنية، والأدبية ) تتوّج غيابها بالإنجاز النقدي الذي قدّم لها، وواكبها، وشيّعها، ومن ثمّ تحوّل إلى أيقونة ثقافية، أيقونة فحسب، ولأن حياة ثقافية جديدة لم تبدأ بعد كحياة، بل كجُزر متفرّقة ومتباعدة من الأفعال الثقافية، فمن الطبيعي أن يغيب النقد، لأن النقد لا يوجد كمُتفرقات بل كموقف ثقافي عام،
* تشيع كثيراً في أيامنا هذه ثقافة المجاملات، نحضر أمسية لا علاقة لها بالشعر وبعد الانتهاء منها ينهال مديح الشعراء لبعضهم البعض، وفي المرة القادمة يتبدل الشاعر وكذلك ينهال المديح من جديد، لكن لا أحد ينتقد انحطاط الشعر المقدم (وهنا لا اعمم)، ألا ترى أن هذه المجاملات بمثابة الكارثة على الشعر السوري؟
** لأن الموقف النقدي غائب، فإن جميع المواقف لا تتعدى دورها في تكريس السائد وتعزيزه، ومن هذا السائد حكم الذات على ذاتها، وما يقود إليه هذا الحكم من استسهال، ومن القضايا الجوهرية في هذا المقام، التي تجب الإشارة إليها، هي أن مثل هذه النشاطات مُجرّد اجتهادات فرديّة بعيدة عن الجديّة المؤسساتية، وتتشابه في هذا مع أغلب النشاطات الفردية، وأما عن الكارثيّة في المسألة فأظنها لا تصلح كصفة لهذا السلوك، الكارثة والكارثيّة في مكان أعمق وأكثر تجذّرا ً،
* باعتبار انك شاعر تفعيلة قبل أن تكون شاعر نثر، كيف تنظر الى المنافسة القائمة بين "النثر و التفعيلة"؟
**إن الذي حدث سابقا ً وما زال مستمرّا ً إلى اليوم ليس منافسة فنيّة جمالية، وإن اتخذ هذا المنحى، بل هو صدى لصراعات ما قبل جمالية، وهو ذات الصراع والتصادم الذي لا بدّ من حصوله بين الثابت، المستقرّ، المُهيمن، والمتحرّك، المتحوّل، الهامشي، ليس في الشعر وحده، بل في العادات والتقاليد، كما في الفكر، والفلسفة، والدين، والمستقرّ الذي يمثّل المتن في كلّ ثقافة، لا يسمح للهامشيّ بالامتداد نحو مساحته وتهديد استقراره، لا أعتقد بأن المسألة تبتعد كثيرا ً عن هذا الأمر .
يذكر أن الشاعر والناقد "ياسر سكيف:
– مواليد حمانا 1959
– إجازة في العلوم الطبيعية اختصاص " شعبة كيميائية حيوية " من جامعة تشرين
– نشر شعرا ً :
1 – خطوة ويضيق الفضاء – اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1990
2 - حجر يستند إلى بنفسجة – اتحاد الكتاب – دمشق 2001
3– فراغ تفاحة لا أكثر – إصدار خاص 2005
4 – وهذا من أخطائي أيضا ً – دار ليندا –السويداء 2011
وفي مجال الدراسة الأدبية :
1 – الحداثة المعطوبة والسلالات القلقة – دار الطليعة الجديدة – دمشق 2006
2– الوجود القلِق والذات التائهة – دار ليندا 2011
إضافة إلى مجموعة من الدراسات والمقالات المنشورة في بعض الصحف السورية والعربية