"أبولودور الدمشقي" أعظم معمار في التاريخ القديم
شيار خليل
قيل إن العمارة هي بمثابة الشعر في البناء ، و"أبولودور الدمشقي" شاعر في العمارة ونسّاج في العمران وبنّاء للسلم والحرب، ذلك وفق الكتابات والدراسات العديدة التي تؤكد أن أصل المعمار العالمي "ابولودور" "دمشقي".
موقع "eSyria" وللبحث في شخصية هذا المعمار العالمي، رصد لكم مجموعة من الآراء حول حياته وإنجازاته.
الدكتور "عدنان البني" في كتابه الخاص عن "أبولودور الدمشقي" قال: «إن اسم "أبولودور" في اليونانية يعني عطاء "أبولو" أو هبة "أبولو"، والرب اليوناني "أبولو" دخل بلاد الشام مع "الإسكندر"، ووحد مع الرب "نبو" الذي كان أكثر الأرباب شعبية في بلادنا منذ أيام الكلدانيين، ولم يكن السوريون فيما نعرف يرون "أبولو" إلا من خلال الرب "نبو" الفائق الشعبية، حتى إن صفاتهما أخذت تتمازج، وهذا الأمر واضح مثلاً في الفن التدمري وأسماء الأعلام التدمرية، إن أسماء مثل "نبوزبد" أو "زبدنبو" أو "برنبو" يقابلها في النصوص اليونانية في "تدمر" أحياناً اسم "أبولودوروس" أو "أبولونيوس" وغير ذلك، وقد يقابل اسم وهب اللات اسم "اثينودوروس" على اعتبار أن الربة "أثينا" موحّدة مع الربة "اللات"، وانطلاقاً من هذه المطابقة أرى أن من المحتمل جداً أن يكون لأبولودور الدمشقي اسم محلي باللهجة العربية أو الآرامية، وقد يكون "أبولودور" اتخذ له أهله اسماً على السُنة المتبعة في أوساط النخبة التي كانت متأثرة بالثقافة اليونانية في أمهات المدن الشامية، ولدينا أمثلة على ذلك لدى الأنباط والتدمريين».
نحت بارز يظهر "أبولودور" في الوسط
عن ولادته وصفاته يقول الدكتور "البني": «في "دمشق" وُلِد "أبولودور"، وعاش تحت سمائها وتنشق عبيرها وغب ماءها وتغذى بخيراتها، وُلِد "أبولودور" في "دمشق" حوالي 60م ومات منفياً حوالي 125م في قمة نضوج عبقريته وكمال شخصيته، ورغم عدم انتمائه للطبقة الأرستوقراطية فقد فرض الاحترام لنفسه والتقدير لمواهبه على المجمتع الروماني، وعاش في أعلى مستوى الحكم مديناً للامبراطور "ترايانوس" "تراجان" وبلغ منصب وزير الانشغال العامة في لغة اليوم، كان جسوراً في عمله يتصدى لأصعب المعضلات التقنية والفنية، كما كان جسوراً في حياته أيضاً يوقف ولي العهد المتنبي "هدريانوس" عند حده ويسخر منه ولا يتردد في نقده وهو في سدة الامبراطورية الأمر الذي كلفه حياته».
أما عن صفاته البدنية وبنيته القوية يقول: «من تمثاله النصفي الموجود حالياً في متحف "ميونيخ" وكذلك من المشهد الذي يمثله مع "ترايانوس" "تراجان" على العمود الذي أنشأه له يتضح أنه كان متين البنية، قوي الشكيمة، متوازن الشخصية، نبيل القسمات وجميل الرجولة، وفيه مهابة ووجهه يضم سمات شرقية لا شك فيها، وعلى الرغم من بعض المعلومات المتناثرة هنا وهناك عن حياته العملية أو الرسمية فإننا نجهل الكثير الكثير عن حياته الشخصية».
هنا وفي هذا المجال يقول "مورتمرويلر": «إن "أبولودور الدمشقي" الذي يكمن اسمه خلف أعظم المنجزات المعمارية في عهد "ترايانوس" "تراجان" يظل لغزاً من الألغاز.
جزء من عمود تراجان
ويذكر تاريخ "كمبردج": إن بعض العلماء يعتقدون بأن سورية في مجال العمارة كانت متقدمة على "روما" بل كانت بالنسبة لها النموذج الذي احتذته، وأن سورية تفوقت على "روما" في عبقريتها المبدعة وفي معارفها التقنية وفي مهارة عمالها ويفترض أن "أبولودور الدمشقي" قد اقتبس تصميمات المباني من سفح "الكوريناليس" عن موطنه الأصلي"».
يتابع الدكتور "عدنان البني" فيقول: «هنا يحضرني حتماً قول الشاعر اللاتيني الهجَّاء الشهير "جوفينال" الذي يقول بمرارة، إن العاصي السوري أخذ يصب مياهه منذ وقت طويل في نهر "التيبر" حاملاً معه لغته وعاداته. وبذلك يؤكد على طريقته حضور السوريين ونفوذهم في "روما"».
كما جاء في موسوعة الفن القديم الإيطالية عن "أبولودور الدمشقي" مايلي: «"أبولودور الدمشقي" معمار من "دمشق" في سورية، عمل في "روما" في النصف الأول من القرن الثاني الميلادي وبخاصة في عهد "تراجان"، كما كان المعمار الرسمي لهذا الامبراطور في مجالي الإنشاءات المدنية والعسكرية، وهو الشخصية الفنية الكبرى الوحيدة التي يمكن تمييزها في خضم جهلنا لأسماء مبدعي الفن في العصر الروماني، وليس هناك حتى الآن دراسة منهجية ونقدية لعمله الذي يرى البعض فيه خصائص رومانية خالصة بينما يرى آخرون في عمله خصائص هيلينستية سورية وهناك من يعتقد أن خصائص عمله رومانية ولكنها تكتسي بعناصر زخرفية هيلينستية».
يتابع الدكتور "عدنان: «لقد أثبتت الدراسات الحديثة أن عدد هذه المنجزات التي أقامها "أبولودور" خمسة عشر على الأقل وهي "السوق على سفح رابية الكوريرنيالس، الميدان "الفوروم" التراجاني، دار العدل الأولبية، المكتبتان، عمود تراجان، الجسر العملاق على الدانوب، قوس النصر في مدينة "بنيفانتوم"، قوس النصر في مدينة "أنكونا"، حمامات وجمنازيوم، توسيع مرفأ أوستيا، تجفيف المستنقعات البونتية، إصلاح قناة من النيل للبحر ومؤلَّف في آلات الحصار أهداه لهدريانوس"».
\
سوق التراجانية
يقول المؤرخ الشهير "ليون هومو": «كان الميدان التراجاني ملبياً لتصميم شمولي طلبه الامبراطور وحققته عبقرية "أبولودور الدمشقي" وهو واحد من المعماريين الكبار الذين عرفهم التاريخ القديم، ويندر أن وجد فنان نفسه أمام مهمة في مثل هذا الاتساع والتعقيد، لم تكن القضية تشييد بناء من أفخم المباني فحسب، بل كانت قضية خلق مجموعة متكاملة ومنسجمة في قلب عاصمة فخمة ومكتظة بالمباني، كان عليه أن يؤمن الفراغ اللازم ثم أن يستخدم أرضاً فيها سويات مختلفة، وعليه في المرحلة الثالثة أن يبني الفوروم ومنشآته، وقد حل تلك المعضلات على أفضل وجه، الأمر الذي خلَّد هذا المعمار الفذ».
ويقول "بيانكي باندنيللي": «من الممكن أن "أبولودور" استوحى فكرة "الفوروم التراجاني" من الساحة الرحيبة المرَّوقة الموجودة حول معبد "جوبيتر" في "دمشق"، وعلى كل حال إن فكرته شرقية أكثرر ما هي رومانية».
ويذكر المؤرخ الروماني "ديو كاسيوس": «أن "تراجان" عمل على أن يقيم في الميدان عموداً شاهقاً ليكون له قبراً وشاهداً على المنشآت المنفذة لهذه الساحة، ولما كان هذا المكان مرتفعاً اجتثه بارتفاع العمود وجعله سهلاً، وكلف بالمهمة كما نعرف "أبولودور الدمشقي" فأنجز هذا العمود في عام 113م في حيلة الامبراطور، وهو قائم حتى الآن ويرى النقاد أن هذا العمود العملاق مزين بافريز منحوت ملتف حول جزعه كفيلم تسجيلي، هو صيغة جديدة استنبطها "أبولودور" الذي ولد في "دمشق"، الأمر الذي جعل بعض الآثاريين يستنتجون من ذلك أنه عرف في موطنه النماذج السابقة لإبداعه هذا حتى أنهم أكدوا أن "الإفريز" والأسلوب المتتابع استوحاه من المنحوتات الآشورية التي كانت قد ماتت ولم يعد لها أثر في الفن الهيلينستي».
نحت بارز من العمود
أما عن منجزاته الأخرى يحدثنا الدكتور "عدنان البني" بقوله: «كما ينسب له "قوس النصر" في مدينة "بينيقا نتوم" في مقاطعة "السامنيوم" وكذلك افريز ضخم منحوت كان معداً ليقام في مكان ما من "الفوروم"، ومن منجزاته أيضاً مسرح موسيقا "أوديون" في "مونتي جورديانو"، ويظن البعض أنه تجديد للأوديون من عهد "دوميتيانوس" 86-91م، أما في مجال السبقات فقد أنشأ "أبولودور" ميداناً "سيركاً" بطول مرحلتين إلى الشمال من موقع مدفن "هدريانوس" على ضفة "التيبر" في "روما"، وكان مخصصاً لتمثيل المعارك البحرية "نوماكيا"، وتنسب الدراسات الحديثه لأبولودور تعديل مرفأ "أوستيا" وإنشاء حوضه المضلع المسدس الذي يشبه من حيث الشكل النماذج الهيلينستية- السورية وكذلك مرفأ "كنتوم كيللي" بأرصفته المقوّسة الرحيبة وهو مرتبط بفيلا "تراجان"».
كما تقول الروائية البلجيكية الشهيرة عضو مجمع الآداب في "فرنسا" "مارغريت يورسنار" في كتابها الشهير "عن حياة هدريانوس على لسان ذلك الامبراطور": «إن العمارة هي اتحاد مع الأرض، هي وضع سمة إنسانية على منظور ما تغيره إلى الأبد، الاستثناء الوحيد للقاعدة كان "أبولودور" العظيم مدير ومستودع أسرار أبي، هذا الرجل الموهوب، كان المعمار المفضل لسلفي الذي حرك بفن الكتل الضخمة عمود "تراجان"».