الشاعر "فيصل البليبل".. شاهد عصر
محمود العبد الله
السبت 13 كانون الأول 2008
«ولد الشاعر "فيصل البليبل" في "الرقة" عام /1919/ م، وعاش فيها ما يقارب الثلاثين سنة، درس وتعلم حتى أصبح معلماً ابتدائياً، وكان منذ شبابه يتوقد حماسةً ووطنيةً، وذكر لي من أثق به من أهل "الرقة"، أن "فيصل البليبل" قاد مجموعة من شباب "الرقة" لمقاومة الفرنسيين وقاموا باستخدام مدفع من مخلفات الجيش العثماني، لكن عدم معرفتهم باستخدامه أدى لانفجاره، ولم يصابوا بأذىً بعون الله».
بهذا الإيجاز المكثف يقدم لنا الباحث الأستاذ "حمصي فرحان الحمادة"، أحد شعراء "الرقة"، ورجالاتها الأفاضل، الذين حفروا ذكراهم بوجدان هذه المدينة، عندما التقاه موقع eRaqqaبتاريخ (8/12/2008)، وتابع حديثه لنا معرفاً بالشاعر "فيصل البليبل"، قائلاً: «هو "فيصل عبد الهادي المصطفى المحمد"، ابن الشيخ "سليمان"، الذي اشتهر بلقب "بليبل"، وهو التصغير المحبب لكلمة "بلبل"، لما عرف عنه من جمال الصوت وعذوبته أثناء تلاوة القرآن، وعشيرة "البليبل" التي ينتمي إليها، تنتسب إلى قبائل "البو بدران" الحسينية، وكان رحمه الله يفاخر بذلك النسب أيما فخر، وحُقَّ له ذلك، وعندما قصف الفرنسيون "دمشق"، خاطبها من "الرقة"، والألم يعتصر قلبه قائلاً:
نادت الشـام فلـبينا نـداها أيُّنا لا يشتهي الموت فداها
أخت "مروان" لدى الفخر وهل تنبت الـعزة إلا في رباها
لم تزل والدهر مـن حسادها فوق هام النجم خفَّاقاً لواها
نحن والمجد ووادي بـردى قد تلاقينا على درب هواها.
ومن المعروف عن هذا الشاعر الرقِّي، أنه عاش في مدينة "دمشق" ما يزيد عن ربع قرن، وعن سبب ذلك يقول "الحمادة": «عندما أينع شبابه، خفق قلبه لإحدى الصبايا الحسان، في مدينته "الرقة"، فخطبها كما يفعل كل العقلاء، ولكن شاء له القدر، ألا يوافق والدها، فلم يطق البقاء في المدينة، وعينه ترقب حبيبته، وغادرها مغضباً إلى محبوبته الأخرى مدينة "دمشق"، وكان ذلك في عام /1948/م، حيث جعل منها مقراً دائماً لإقامته، وعمل فيها بحقل التعليم مدة ربع قرن، كان خلالها مثالاً للإخلاصحوار بين الشاعر "بسام البليبل" ابن أخ الشاعر "فيصل" والباحث "الحمادة"
في العمل، والتفاني، والوطنية، أصيب باحتشاء دماغي، جعل شقه الأيسر مشلولاً بشكل بسيط، فتقاعد عن العمل، وفي "دمشق" كان له منتدى أدبي، يعقده صباح كل جمعة، في منزل أخيه الضابط "خليل عبد الهادي البليبل"، وكان يحضر هذا المنتدى أهل "الرقة" المغتربين في "دمشق"، وكذلك من يمر بها منهم في يوم الجمعة، وخاصة الدكتور "عبد السلام العجيلي" رحمه الله، وكنت أنا العبد الفقير لله، خلال دراستي في "دمشق" من المداومين بالحضور على هذا المنتدى، وكان شاعرنا يصر على الحضور بلباسه العربي الرقِّي من ثوبٍ، وحطَّةٍ، وعقالٍ، وعباءة، وكان يقول: (إن هذا الثوب الذي أرتديه، ثوب عزٍّ للعرب)، وكان يقصد دوامه بلباسه الإفرنجي، وقد غطى رأسه بالحطَّةِ والعقال».
وعن عودته لمدينته "الرقة"، يقول "الحمادة": «وبعد تقاعده، عاد إلى "الرقة" فترةً من الزمن، وجعل من بيته خلالها، منتدىً أدبياً، إذ خصص يوماً في الأسبوع لمثقفي "الرقة"، يستقبلهم فيه وتدور الأحاديث الطيبة، التي تغني القلب والعقل معاً، ولشدة اهتمامه بهذا المنتدى، فتح سجلاً اسمياً للحضور، حيث يوقع كل واحد عند حضوره المنتدى، مع تسجيل اسمه، ومن أشهر من كان يحضر المنتدى من مثقفي "الرقة"، أذكر: الدكتور "عبد السلام العجيلي"، الشاعر "مصطفى الحسون"، الباحث "محمد عبد الحميد الحمد"، الشاعر "أحمد المفتاح"، "غسان الصطاف"، "عبد الرحمن الكياص"، "عبد الجليل أحمد الحاج عبد الله"، وغيرهم من الأفاضل الذين لا تسعفني الذاكرة بأسمائهم، وكانت تمضي الساعات الطوال لمجلسنا، نكاد لا نشعر بها لطيبالحديث، ومتعته».
أما عن تجربته الشعرية، فيقول الشاعر "نجم الدرويش": «من الظلم الكبير أن نقدم في هذه العجالة دراسة عن شاعر كبير بقامة "فيصل البليبل"، ولكن نقول بأن الغالب على شعره، كان الطابع القومي والوطني، إذ كان يطرب بالتغني بأمجاد العروبة، التي تمثلها بالنسبة إليه "دمشق"، تلك المدينة التي عشقها كثيراً، كما تغنى بشعره بمعارك العز والفخار، التي خاضتها الأمة العربية، عبر تاريخها الطويل، كمعركة "اليرموك"، و"عين جالوت"، و"حطين"، و"ميسلون"، وغيرها مما تفخر به الأمة العربية، وكانت أكبر صدمةٍ تلقاها كأي عربي غيور، نكسةَ حزيران عام /1967/م، التي دمغت شِعره بلون فيه ألم وحسرة، كما فيه حنق وغضب على كل المتخاذلين، له الكثير من القصائد، ولكنه كان مقلاً في نشرها، وقد كتب عنه الدكتور "بسام الساعي"، في مؤلفه "الشعر السياسي في سوريا"، ومن إحدى قصائده التي كتبها عام /1961/م، عن مدينته "الرقة"، أقتطف لكم قوله:
إليك عروس الفرات الثنـاء وجـلَّ ثناؤك عـن قدرتي
أثني عليك "الرشيد" العظيم وأطمـع أن تـقبلي مدحتي
وكـان إذا ساءلته الجـنان إلى أين؟ قـال إلى "الرقةِ"».
ويتابع باحثنا "الحمادة" حديثه عن الشاعر "البليبل" بالقول: «في الندوة الدولية لتاريخ "الرقة" وآثارها، المنعقدة بين /24– 28/ تشرين الأول عام/1981/ م، أُلقيت قصيدته الرائعة "الرقة"، التي أقتطف لكم منها هذه الأبيات:
(تذكر الحسناء ريعان صباها فاسـألوا "الرقة" من كان بـناها
قـل الـعز مـن شـيدهـا من بنى الأسوار من أرسى علاها
باب "بغداد" لقدكـان ومـا زال يـختال شـموخاً واتـجاها
أخت "بغداد" لها المجد وهـل أشـرق الـتاريخ إلا مـن رباها
عادت "الرقة" من شرخ الصبا أيـها الـتاريخ قـم كيـما تراها
بشروا "الرقة" فالصـبح لـها مرةً أخرى إذا الـداعي دعـاها)
وكان شديد الاعتزاز بأمته، وتاريخها المجيد، وفي ذلك كتب قصيدةً، أختار منها قوله:
بارك الله مجدنا وعـلانا واصطفى خير أمةٍ فاصطفانا
والكتاب الذي أتانا به "طه" حـملناه ننـشر الإيـمـانا
لا تقولوا إن العروبة ماتت من سيبقى يـرتل القـرآنـا
أمة الـعرب لـن تـموت ويا "حطين" بـشرى غداً لقانا».
ويذكر أن الشاعر "مصطفى البليبل" عاش عمره أعزباً لم يتزوج، دون أن يسمح لأحد بتأويل ذلك، وذلك لرفعة أخلاقه العربية، وقد توفي في مدينة "دمشق" في عام /1984/م، التي لم يطق لها فراقاً، لكنه دفن في "الرقة" حيث أوصى بذلك بوصيته، وودعته "الرقة" كما تودع كبارها، وكان وداعاً مؤثراً، فقد كان شاعراً جسد في شعره آمال وطموحات كل عربي حر عموماً، وكل رقيٍّ بشكل خاص، له من المؤلفات دواوين كثيرة، نذكر منها: "وافيصلاه"، "أصنام في السماء"، "الدروب إلى حزيران"، "تأملات"، "إني معلم"، "وا ذلاه"، "قصائد مزقها عبد الناصر".