"جميل قاشا" ..بين الواقع النحتي والرؤية الخاصة
شادي نصير - اللاذقية
ليس من السهولة أن يقرأ المتلقي أعمالاً نحتية ذات خصوصية عالية، تبحث في مضامين التاريخ والميثولوجيا، وتحديداً إذا كان النحات الباحث لا يكتفي بقراءة بسيطة للحدث الذي يسعى لنقله إلى الكتلة الحجرية الموضوعة في محترفه، بل يسعى ليكّونِ حدثاً مساوياً للأسطورة ذاتها أو ربما يحاول تجاوزها ليرسم لنفسه ولتاريخه النحتي بحثاً جديداً متجدداً.
"جميل قاشا" الذي تخرج من محترف كلية الفنون الجميلة في العام "1983" وعاد إلى مدينته "جسر الشغور"، أصبح يَجمحُ بخياله المتشرب من جذور الأرض وتاريخها الفكر والخيال والجنوح نحو الخلق والإبتكار، نحو الجبال المحيطة وتكويناتها الجيولوجية التي أسرته وباحت له بأسرارها ومكامن الجمال فيها، ليصبح الحجر مفصحاً عن معانيه ومشاعره كوسيلة لتقديم الجديد في النحت.
هذا السر المخبأ لعقود يطالعنا به النحات "جميل قاشا" الباحث عن سر الكتلة الحجرية، فنراه يمتشق أداته النحتية، ويزرع في الأحراش المحيطة أوتاداً وإشاراتٍ لا تلبث أن تنتقل إلى محترفه، لتتحول بجهدٍ وصبرٍ إلى كتلةٍ ناطقةٍ جمالياً، وباحثة من خلال رؤية نحاتها وتشكيله عن مكان لها في التاريخ السوري المعاصر للنحت.
"جميل قاشا" في بحثه المستمر لا يترك الكتلة دون أن يخوض معها حواره الخاص، يستمع إلى صوتها الناطق ويلبسها ما يريدها أن تكون، فالكتلة الحجرية ليست صماء بنظره، هي ناطقة توحي للنحات بتكوينها وبلونها، أين سيضع أداته النحتية وأين سيفرع منها مزيدا من الكتل، لتظهر بجلالها وقدرتها على الوقوف بشموخ. فالمنحوتة الحجرية برأي الفنان: "أنها مشكلة في الطبيعة ولا تحتاج إلا للتشذيب لتعود إلى هيئتها الحقيقية".
يرى "قاشا" أن النحت للخط الذي هو الأساس في أي عمل نحتي، الخط الذي يسير بالمنحوتة والنحات على حد سواء نحو اكتشافات واكتشافات، ومن ثم للمكان، ومن خلال انتمائه للمكان يستطيع أن يفرغ الصخب الموجود في داخله ويترجمه بشكل فني جميل، فنرى أن ما يشكله من حيوانات ترتهن ببيئته من حيث إشاراتها وحركاتها التي تُدخل المتلقي بحوارية حقيقية تفضي في النهاية إلى اكتشافات جديدة لم يكن المتلقي العادي قادر على اكتشافها أو البحث في غمارها لو أنه لم يتجرأ ويقترب ليصغي إلى صوت الهمس النابع من زوايا المنحوتات مع تمسكه بعدم إثقال أي عمل بما لا يناسب طاقته وقدراته.
تستمع في مشغله لصوت الطيور، وفي ركن قصي يطالعك خوار الثيران التي لها شكل خاص يتفرد به النحات، وتعود بنا إلى أساطير مضت منذ حين.
ما بين الواقع النحتي والرؤية الخاصة، يرى "قاشا" أن النحت هو تحدٍ للذات وهو بحاجة إلى إسهاب في البحث الدائم، فلا بد للنحات من التعرف على أنواع الكتل التي يتعامل معها وألوانها وكيفية مزاوجتها مع قطع معدنية أو أحجار أخرى لتحقيق الحالة الفريدة التي هي من أساسيات النحت.
في بحثه كنحات عن أشكال للنحت لا يقف عند كتلة أو مادة أو حدث ما، فنرى أن أعماله تتوزع في حالات وأحداث ومستويات نفسية وفلسفية عديدة في البعض منها يكون الحدث المفرح هو الباعث للموسيقا، بينما في عمل آخر نرى الموقف بعيد كل البعد، وهذا ما يصر الفنان على إبقائه، فالمذاهب الفنية الكلاسيكية وما تبعها من مدارس لها خصوصيتها في النحت تذوب جميعها في بوتقة عمله النحتي ليخرج للمتلقين أسلوبا جديدا من أساليب التشكيل النحتي الخاص.
العفوية التي تتحكم في أعمال "جميل قاشا" عفوية مدروسة بكل حيثياتها، فتوضع الكتلة واتجاهها وزاوية الإضاءة تراها موجودة بدقة، ولا تنافي العفوية التي تكلل الأعمال، ومن هنا تأتي فرادته وفرادة أعماله النحتية.
النحات "جميل قاشا" لايزال هو ذلك الباحث منذ أكثر من ربع قرن، في عمله النحتي عن القيمة التي تؤكد على الذات البشرية، والتي تأتي بالقيمة المضافة لأي عمل تشكيلي ونحتي له خصوصيته الإبداعية .هذه القيمة التي تجعل العمل الفني قادر على الصمود في وجه تيارات الحداثة في النحت العالمي.