جودة الهاشمي... اللبنة الأولى للقومية العربية
حسانة سقباني
ربى أجيالاً وبنى عقولاً على مدى ستين عاماً، وتقديراً لعلمه وصدق وطنيته وتخليداً لمنجزاته سميت أول ثانوية رسمية في "سورية" باسمه، ومازالت قائمة حتى اليوم.
مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 26 تشرين الأول 2014، الباحث التاريخي "عماد العاني" الذي تحدث عن المربي الفاضل "جودة الهامشي"، ويقول: «دخل في سن مبكرة كتاب الشيخ "سعيد الشريف" لحرص والده الشديد على تعليمه، وعندما لمس أستاذه تفوقه اصطحبه مع عدد من الطلاب المتفوقين إلى "استانبول"، وهناك تبنت الدولة تدريسه وخصته بمقعد في دار "الشفقة" عام 1899م، وكان في الثانية عشرة من العمر حين لمس أساتذته تفوقه في الرياضيات، فعدلوا اسمه وجعلوه "أحمد جودة الرياضي" تعبيراً عن إعجابهم وتقديراً لتفوقه، وقد عرف فيما بعد ذلك باسم "جودة" كما هو مسجل بالسجل المدني، أنهى دراسته الثانوية في "استانبول" بتفوق كبير على جميع الطلاب الأتراك والوافدين من كافة أنحاء الدولة العثمانية، فأوفدته الدولة إلى "فرنسا" للدراسة في جامعاتها، فأنهى دراسته الجامعية في الرياضيات بتفوق أيضاً عام 1913م».
ويتابع: «حين عودته إلى "استانبول" بعد تخرجه في فرنسا وانتهاء تخصصه، خيّرته الدولة بين العمل في "تركيا" مدرساً للرياضيات، أو في أحد البلاد العربية، فلم يتردد في طلب العودة إلى "دمشق"، للمساهمة في رفع مستواها العلمي، كما عُين مدرساً في مدرسة المقاصد الخيرية في "بيروت" لمدة سنة، وفي مدرسة "الصلاحية" في "القدس" وبعدها عاد إلى "دمشق" بعد جلاء القوات التركية من "سورية" عام 1918م، فعُين أستاذاً لمادة الرياضيات في مكتب "عنبر" وكانت يومها الثانوية الوحيدة في "دمشق" ثم عين مديراً لمكتب "عنبر"، وسعى لدى الدولة من أجل إنشاء مدرسة ثانوية نموذجية، فأنشئت مدرسة "التجهيز الأولى" التي أسندت إليه إدارتها إضافة إلى تدريسه الرياضيات فيها، وهي الثانوية الكبرى، التي أطلق عليها اسمه "جودة الهاشمي" بعد رحيله».
ويضيف: «عين "جودة الهاشمي"مديراً للتعليم الابتدائي، ثم عين مديراً للتعليم الثانوي، ثم أميناً عاماً لوزارة المعارف، وأحيل بعد ذلك للتقاعد بعد أن بلغ السن القانونية، ومنح وسام الاستحقاق السوري عام 1949م، كما قام "الهاشمي" بتأليف عدد من الكتب في الرياضيات بكافة فروعها، والدافع إلى ذلك أن المستشار الفرنسي لوزارة المعارف أيام الانتداب كان يحاول فرض تدريس الرياضيات باللغة الفرنسية، بدلاً من اللغة العربية، زاعماً أنه لا يوجد في اللغة العربية مصطلحات كافية في هذا المجال، كما أنه لا يوجد فيها كتب للرياضيات، كان يفعل ذلك تمهيداً لفرض تدريس جميع مواد التعليم باللغة الفرنسية، وقد تعاون الأستاذ "الهاشمي" يومها مع عدد من الأساتذة للوقوف بوجه هذا التيار المدمر، وأخذ على عاتقه ما يتعلق بالرياضيات، وقد انصرف إلى دراسة المصطلحات التي استعملها العرب في العصور القديمة، فاستقى منها ما استطاع وعرب ما استحدث فيما بعد من تعابير، وأصدر سلسلة من كتب الرياضيات لكافة الصفوف الثانوية».
وقد ذكر الأديب والباحث "عبد الغني العطري" في كتابه "عبقريات من بلادي" الكثير من مواقفه الوطنية والإنسانية، ويقول: «في حياة الأستاذ "الهاشمي" مواقف وطنية كثيرة جديرة بالوقوف والتأمل؛ فخلال الثورة السورية عام 1925، وعقب معركة حامية مع الفرنسيين قرب مدرسة "عنبر" استشهد فيها من استشهد، لجأ اثنان من الثوار إلى المدرسة تحت جنح الظلام، وكان "جودة الهاشمي" يومئذ مديراً لها، ويتفقد أمورها في الليل، فقام بإخفائهما بنفسه في غرفة تقع فوق غرفته على سطح المدرسة، وكان أحدهما جريحاً فأخذ يقوم على خدمتهما أيضاً، وحرصاً منه على عدم تسرب أمر وجودهما في المدرسة إلى أحد، استطاع بعد أيام تأمين عودتهما إلى قاعدتهما، عن طريق سطوح المنازل الملاصقة للمدرسة».
ويتابع: «كما كانت الأحوال المادية لمعظم النازحين من أقطار المغرب متردية جداً، فقام الأستاذ "جودة الهاشمي" بالاشتراك مع عدد من إخوانه بتأسيس جمعية خيرية في الحي الذي ضم معظم القادمين من المغرب العربي، وهو حي "السويقة" في منطقة "الميدان"، وأطلق عليها اسم جمعية "المقاصد الخيرية المغربية"، وكان ذلك عام 1928، وعملت الجمعية على مد يدّ المساعدة المادية بمؤازرة كافة أهالي المنطقة إلى المحتاجين، سواء كانوا سوريين أو مغربيين نازحين دون أي فارق، كما كان يوزع جميع مؤلفاته على كل من يحتاج إليها دون مقابل، ويوجه أبناء النازحين خصوصاً نحو العلم لرفع مستوى عائلاتهم، وقد اتصل خلال دراسته في "فرنسا" وقبلها في "استانبول" بدعاة القضية العربية والعاملين في هذا الحقل، وساهم معهم في وضع اللبنة الأولى للقومية العربية إلى أن استقلت الأقطار العربية الواحد بعد الآخر، كذلك قام مع أفراد الجمعية بالاتصال بالجامعة العربية والأمم المتحدة، مطالباً بالإفراج عن الزعيم "محمد عبد الكريم الخطابي" بطل ثورة الريف، وكان في مقدمة الذين ساهموا في تأمين لجوئه إلى "مصر"، بالتعاون مع بعض الهيئات السياسية هناك».
ويضيف: «من روائع وطنيته ورحمته بالطلاب معاً أنه ذات يوم جاء رجال الأمن إلى مكتب "عنبر"، وكان مديراً له، وطلبوا تسليم أحد الطلاب الوطنيين، وكان ذلك يوم الخميس، فأجابهم إنه لا يسمح باعتقال أي طالب داخل المدرسة؛ إذا شئتم اعتقلوه خارجها، وكان الطالب داخلياً ممن يبيتون في المدرسة طوال أيام الأسبوع، والعادة أنه تتلى أسماء المعاقبين من الداخليين بالحرمان من الخروج يوم الجمعة بعد آخر ساعة من ساعات دوام يوم الخميس، فإذا بالمرحوم "جودة الهاشمي" يضيف إلى قائمة المحرومين اسم ذلك الطالب الذي تعجب من تلك العقوبة، التي لم يعرف لها سبباً، وقد أصر الطالب أن يعرف السبب الذي لم يكشف عنه إلا بعد أن سوى "الهاشمي" أمر التوقيف واسترده، لقد كان أحد العباقرة ممن تتحدث عنهم بلاد الشام بالفخر والاعتزاز، كما يتحدث عنه ويشيد به كل من سمع به أو عرفه في "الجزائر"، موطن آبائه وأجداده».
يذكر أنه "أحمد الحسني الجزائري" المعروف باسم "جودة الهاشمي"، ولد في "دمشق" عام 1887م، من أبوين جزائريين، وانتقل إلى جوار ربه في الشهر الثاني من عام 1955 إثر إصابته بنوبة قلبية.