"داوود الخوري"...رائد المسرح الحمصي
كنان متري
وصفه الأستاذ المسرحي "فرحان بلبل" في إحدى محاضراته بأنه: «واحد من كبار مؤسسي المسرح في سورية، ذو الفضل الكبير على الحركة المسرحية في "حمص" وكان يقدّم أعماله على مسرح المدرسة الأرثوذكسية في حي "بستان الديوان"، ومن أهم وأروع مسرحياته التي قدمها عام /1891/ على ذلك المسرح مسرحية "جنفياف" التي نالت نجاحاً منقطع النظير، وأعيد تمثيلها في كل الأقطار العربية والمهاجر».
وقال عنه الأديب "يوسف عبد الأحد" في إحدى مقالاته: «كان المعلم "داوود" يتمتّع بذكاء خارق وخيالٍ واسع، وسخّر قلمَه لخدمة بلده ومجتمعه، وكان ضليعاً في العلوم الرياضية والطبيعية والموسيقية وبألحان الفنّ وأوزانه وبالتمثيل».
ولد الشاعر والمسرحي والمعلم "داوود الخوري" في الثاني من شباط سنة /1860/ في مدينة "حمص"، والده المرحوم "قسطنطين الخوري" أحد أعلام "حمص" في زمانه، حيث كان يتكلم عدا العربية اليونانية والتركية وله إلمام باللغة الفارسية، شغل عدة مناصب حكومية في سورية.
تلقى "داوود الخوري" دراسته الأولى ومبادئ القراءة والكتابة والحساب في المدرسة الوطنية في "حمص"، ثمَّ درسَ اللغة العربية وآدابها واللغة التركية على يد والده "قسطنطين"، وكان مولعاً بالمطالعة، وأخذ ينهل من أمهات الكتب التي في مكتبة أبيه، فكانت هذه المطالعات الشخصية هي مدرسته الكبرى فأكسبته ثقافة واسعة، ونبغَ في التأليف المسرحي والأدب والشعر والفنّ والتمثيل.
وفي عام /1888/ عملَ مدرِّساً للغة العربية والتاريخ والرياضيات في المدارس الأرثوذكسية في "حمص"، وخدمها خدمة صادقة، وامتاز أيضاً بتدريس الموسيقا ومسك الدفاتر، وعلى يديه تخرج عدد وفير من شباب "حمص" المقيمين والمنتشرين في كل المهاجر.
خاضَ "داوود الخوري" تجربة الكتابة المسرحية وركز في مسرحياته على القيم الأخلاقية، ومن أهم مسرحياته التي ألفها: (رواية "الأميرة جنفياف"، وقد مُثلت من قِبل تلاميذ مدرسة الروم الأرثوذكس بـ"حمص"، ومسرحية "اليتيمة المسكوبية"، و" الصدف المدهشة" و"عمر بن الخطاب والعجوز" و"الابن الضال" و" جابر عثرات الكرام" و"العشر العذارى" و"السامري الشفيق") وغيرها من التمثيليات الصغيرة والهزلية، وله مع العلاّمة "يوسف شاهين" روايتان هما: "يهوديت" و"سميراميس".
وفي تلك الأيام كان "أبو خليل القباني" الرائدَ المسرحي الأول في سورية، وقد تأثر به "الخوري" كثيراً كما
صورة للمعلم "داوود" قبل هجرته إلى البرازيل
أنَّ "القباني" استفاد من صوت "داوود" الجميل ومن ألحانه وشعره، إذ كانت مسرحيات "داوود" تُعرَض على مسرح القبَّاني في "دمشق".
كما كان "داوود" يراسل عدة جرائد ومجلاّت في الوطن منها "جريدة المنار" و"المحبة" وجريدة المسيحية وهي "لسان حال السينودس الروسي"، وكانت تصدر في "بطرس برغ"، فنشرَ في هذه الجرائد مجموعة من المقالات الأدبية والانتقادية والتمثيلية.
عيّنته الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية التي كانت تشرف على المدارس الأرثوذكسية عضواً عاملاً في إدارتها تقديراً منها لأدبه وخدماته الجلّى، ومنحته الحكومة الروسية وسامَ القديس "فلاديمير" سنة /1907/ تقديراً لنبوغه وتفانيه في خدمة المدارس ومعاهد البر والإحسان.
مع زوجته وأولاده
تولّى رئاسة تحرير "جريدة حمص" سنة /1910/ ونشرَ فيها عشرات المقالات القيّمة، واستمرَّ في خدمة الأدب والفن والمؤسسات والجمعيات الخيرية والاجتماعية والوطنية إلى أن وقعت الحرب العالمية سنة /1914/، حيث انقطعَ عن التدريس بسبب إغلاق المدارس، وتوقفت أيضاً "جريدة حمص" عن الصدور.
في شهر تموز سنة /1892/ تزوّج "داوود" من الآنسة "كرياكي" ابنة الخوري "إبراهيم السمان" الحمصية، وأنجبت ثلاث بنات، وثلاثة صبيان، وهم: (مفيدة، وأديل، وعفيفة، وتوفيق، وألبيرتو).
هاجرَ "داوود" مع عائلته إلى "سان باولو" البرازيل سنة /1926/ بإلحاح من ولديه "توفيق" و"ألبرتو"، وقبل سفره أهدت إليه جمعية "نور العفاف" الخيرية في "حمص" في حفلة أقامتها على شرفه وساماً ذهبياً تقديراً لخدماته الجليلة لها.
كما احتفلت الجالية السورية بقدومه إلى "سان باولو"، وبطلب منها ترأسَ "داوود" النادي الحمصي هناك في عام /1927/، وازدهرَ هذا النادي على أيامه ازدهاراً كبيراً، فأعاد تمثيل رواية (اليتيمة المسكوبية)، التي نالت استحساناً باهراً، وكتبت عن نجاحها الصحافة العربية في المهجر.
ومما نظمه ووضعه المرحوم "داوود الخوري" من قصائد في البرازيل تلمس نار الحنين التي تأججت في صدره نحو الوطن، وعلى سبيل المثال نورد ما قاله مناجياً سورية الحبيبة:
لي لذة في ذكر مجد ربوعي
لكنه ذكر يسيل دموعي
ذكر به أرجو لقلبي راحة
فيثير نار الوجد بين ضلوعي
إن أنس سورية فما أنا بابنها
الوافي وما حبي لها بطبيعي
فأنا الولوع بحبها من صبوتي
والبعد عنها لا يزيل ولوعي
وفيما يلي أبيات كلها شوق وحنين لمسقط رأسه "حمص":
ما لي فتنت صبابة بهواك
وزلال مائك واعتلال هواك
عاصيك في فردوس روضك طائع
منه يفيض اليمن في يمناك
هذا دمي هو من دماك منحته
فمن المروءة أن يكون فداك
إني أحن إلى رباك تشوّقاً
وإلى المدى يا حمص لا أنساك
في السادس عشر من شهر شباط سنة /1939/ وافت المنيّة الأديب "الخوري" في "سان باولو" بعد أن قضى فيها أربعة عشر عاماً. وأقامت له الجاليات العربية حفلات تأبينية كبرى ورثاه كبارُ الشعراء والأدباء، منهم الشاعر "نسيب عريضة" و"ندرة حداد" و"بدري فركوح"، وهم كانوا من تلامذته.
غلاف روايته الأشهر
كرّمت "حمص" ابنَها البار بتسمية الشارع الكائن في حي "باب السباع" المبتدئ من شارع "محمد عبده" والمنتهي بشارع "أمية" باسم (شارع داوود قسطنطين الخوري)، وذلك بموجب قرار لجنة بلدية "حمص" رقم (216) تاريخ (29 / 10 / 1953).
بعد وفاته فكّر أولاده بجمع تراثِه لأنه كان زاهداً ومتواضعاً في حياته، ولم يكن يكترث في جمع أعماله الأدبية، وبتشجيعٍ مُلحّ من قبل الأديب الدكتور "شاكر مصطفى" وزير الإعلام السابق، والذي كان آنذاكَ سفيراً لسورية في "سان باولو" اهتمَّ أولاده وبدؤوا بالتفتيش والتنقيب في مخلفاته وأوراقه لجمع ما يتيسر لهم جمعُه من روايات
تمثيلية ومقالات وقصائد وأناشيد وطنية إضافة ً إلى ما نشره في البرازيل ليكونَ العملُ متكاملاً، وذلك تخليداً لذكرى والدهم والقيام بواجبهم تجاهه كأديبٍ كبيرٍ ومخلصٍ لبلده.
بعد مدَّةٍ طويلة تمَّ جمع تراثه وقامت وزارة الثقافة بطباعة أعماله في كتاب عام / 1964/ وبلغ عدد صفحاته من الحجم الكبير خمسمئة صفحة، ضمَّ تراثه في الرواية والشعر والأدب. وكتبَ مقدمة الكتاب الدكتور "شاكر مصطفى" بعنوان "الوثائق الأدبية" جاءَ فيها:
«ثمَّ وجدتني صدفة ً في سان باولو أقعُ من حيث لا أحتسب وحيث لا أنتظر على بعض حلمي القديم، لقد عثرتُ هناكَ على تراث المعلّم "داوود الخوري"، وإني لأنحني ها هنا احتراماً وشكراً لذلك التجاوب الطيب الذي قابلتني أسرة هذا المعلم في ذلك المهجر البعيد حين رغبتُ إليها في نشر تراثه».