رحلة وجوه "دريد الأسد" .. حديث العين عن الذات
كمال شاهين - اللاذقية
في الطريق إلى معرضه، التقيت مصادفةً عدداً من الفنانين التشكيليين، بعضهم حين سألته عن المعرض هزّ رأسه إعجاباً، وبعضهم الآخر أشاح بوجهه نافياً أن يكون ما شاهده هو من الفن التشكيلي، ليبدو هذا التضاد جزءاً ثابتاً من التقاليد "التشكيلية" في "اللاذقية" التي ترى بعين واحدة على الأغلب.
في الحالتين وجدتني مدفوعاً للمشاهدة الجدية لمعرض شكل اسم صاحبه قبل فنه نقطة اللقاء والافتراق في هذه الآراء، إضافة إلى أنه صاحب أول صالة عرض فنية احترافية في المدينة.
أن تولد ابناً في عائلة لها خصوصيتها السياسية والتاريخية، أمرٌ ليس دوماً محط حسد من قبل الآخرين، فأي إبداع أو نشاط يقدم للجمهور ستترك هذه الخصوصية تأثيرها عليه، وفي زمن يصعب تبيان خيط الصدق الأبيض فيه من خيط النفاق الأسود.
تبدو القراءة الجمالية للوحات الفنان "دريد الأسد" أكثر صعوبة وحساسية، خاصة وأنها تجربته الأولى في العرض، ورغم تاريخ علاقته الطويلة مع الفن التشكيلي كما يقول في حديث مع "المفكرة الثقافية" في ثالث أيام افتتاح معرضه، إلا أنها المرة الأولى التي يغامر فيها ويضع أمام "المتلقي" خلاصة عمل امتد سنوات في صياغة هوية تشكيلية خاصة به.
في تقديمه للمعرض كتب الفنان قائلاً: «من خصوصيات عملي التشكيلي ميلي لتبني فكرة الفن السوري لموضوع المفردة التشكيلية، لأنها شكل مناسب لإبراز الخصوصية الفنية لكل فنان، ولا بد لكل فنان من البحث لإيجاد مفردته التشكيلية الخاصة وهذا ما أسعى إليه من خلال معرضي "وجوه تولد من جديد"».
في المعرض ما يقرب من ثلاثين لوحة، فكرتها الأولى والأهم هي اللعب على مفردة "الوجوه"، بهذه الصفة نجح الفنان في تقديم مفردته التي تحدث عنها، فلم يخرج عن هذه السمة في أعماله المقدمة، غير أن المفردة نفسها ككيان، لا تكفي لصياغة اكتمال للمشهد البصري، وهذا ما يعيه الفنان، فيذهب في وجوهه إلى إعادة بنائها فنياً، ولكن بريشته وقلم رصاصه، فتظهر الحدود اللونية المتآلفة أو المتضادة على اللوحة، وتذهب بالمتلقي إلى حيث يريد الفنان، وهذا يحسب له في تجربته الأولى، وفي تتمة المشهد البصري تحضر العين التي "تقدر على التحدث عن ذاتها وشرح كل حالة من حالاتها" كما يقول الفنان في تقديمه السابق.
ولعل العين هي في مفردات الفنان العنصر الأكثر نقلاً لرؤيته الفكرية بصرياً ولونياً إلى المساحات البيضاء الكثيرة في لوحاته، ولكن ضمن جدل التآلف إياه بين عناصر اللوحة، العين في لوحاته تختصر وتطيل تبعاً لمزاجها اللوني، فهي ترتدي شخوصها وذاكرتها وعريها أيضاً، في استعراض يبدو تأريخاً لسيرتها هي، سيرة العين في تحولاتها، فكأنها هي العلامة الدالة على الوجوه، وهي الدّال وحامل المدلول إلى الوجوه.
هناك في حضور العين على اللوحة تماس مباشر مع المتلقي، تتابعه أين تحرك، العين النافرة التي تحاول أن "تنشق" عن الشخوص لتشكل كياناً مستقلاً، بدلالات بعضها مختلف، كالعين على قبعة الجنرال، وانزياحها عن موقعها بما لا يشكل تنافراً هندسياً، والظلال التي تتركها على الشخوص نفسها، فكرة "العين الفرعونية" من أيام "حورس" والتي تجلت كثيراً في الفنون العالمية، خاصة لدى الفنان "بيكاسو" في عدة أعمال قدمها منها عمله الأشهر "المرأة الباكية"، التي هي بتعبير أحد الفنانين السوريين (عمل تكعيبي احترافي)، تأخذ هنا بعداً جديداً فتكون هي المحور المركزي في اللوحة لمن شاء أن يقرأها في أحد أبعادها.
"العين" عند الفنان هي "نافذة اللوحة" كما هي نافذة الروح، لا تظهر الوجوه خارج جدل العين، لتبدو الوجوه ملحقة بهذه اللعبة البصرية، هناك انزياح عن الاعتيادي في دور العين إلى البؤرة التي تحقق استغراب المتلقي، وفي هذا أول النجاح في بناء هوية الفنان البصرية، وبحضور الضوء كجزء متماهٍ مع الوظيفة التشريحية والعملية للعين تكتمل الصياغة الفنية في لوحات الفنان.
العين هي الاسم، هي "دليل صاحبها إن ضاع" بتعبير الراحل "محمود درويش"، من العين يمكن معرفة وجه مَن يحتل مساحة البياض، وهذه العين "تؤرخ" للوجوه المرسومة، من التراث العربي القريب إلى جنرال الحرب المبتسم بسخرية خفيفة، مروراً بأوروبا "الجيوكندا" إلى تعبيرية "سيزان"، دون أن تغفل عن المفردات المحلية "العثمانية والشامية واللاذقانية" الظاهرة في أزياء الشخوص المختارة.
تمتص عين الفنان في اللوحة حضور المتلقي، عبر هلاليتها وانغلاقها، آسرةً البعد الزمني للوجه ليسيطر السكون على المشهد، رغم حركية تناثرت هنا وهناك في بضع لوحات، فأنت كمتلقي أمام جدل "ساخن" ينشأ عفوياً بينك وبين العين وحاملها (الوجه)، العين الواضحة الأبعاد الصافية والحادة في كل اللوحات تغرد لوحدها في سرب الوجه، بما يجعل التكهن برسالتها سهلاً. إنها العين الواعية لوقوعها في مركز اللوحة في مشهد بصري متحدر من قرار الفنان بتعريتها من كل تفاصيلها الثانوية، فحتى الجسد الظاهر في عريه الفاضح يصغر أمام حدّة العين في تحديقها اللازمني المستتر بالوجوه نفسها.
في عين المتلقي تبدو الوجوه حادة الحضور، قاسية بخطوطها المفردة الواضحة، ومحدقة بقوة في عين الآخر، وبتوازن لوني لا يغرق في استباحة الضوء، هكذا يمكن أن نقرأ لوحة الفنان هنا تقنياً، وفي بقاء الفنان في ظل مفردته التشكيلية يحافظ على الهدوء في قراءة اللوحة، فليس على المتلقي فك طلاسم اللوحة لديه، فهي ـ وهو ـ بهذا العري الفاضح أقرب إلى تشكيل مقطوعة "هايكو" صغيرة، رسالتها تستمر ثوان، ليبدأ بعدها استغراق سريع آخر.
تبدو أعمال الفنان ببساطتها خادعة، في المجمل العام للأعمال هناك تكرار واضح في المشهدية البصرية، لوحات تنتقي شخوصاً مختلفة لمفردة واحدة مع "انتماء واضح للتعبيرية الرمزية وتطعيم للتكعيبية في بعض الأعمال" يقول الفنان "نعمان عيسى" في قراءة أولية للوحات، من هنا نفهم تحفظ البعض على انتماء بعض اللوحات للفن التشكيلي، وبقدر ما يثير هذا الأمر حفيظة الفنانين الذين تغرق لوحاتهم في كثير تفاصيل تشكيلية، بقدر "ما يبعد المتلقي بسرعة من أمام اللوحة للانتقال إلى جارتها، ويبقى الأمر رهناً برؤية الفنان واشتغاله على هويته البصرية التي يبني عليها مشواره الفني".
في النهاية، هناك هوية قيد التشكل لدى الفنان، وإذا ما ذهبنا مع "أندريه بروتون" في تقييم الصورة إزاء المتلقي بفكرة الصدمة إيجاباً أو سلباً، فقد نجح الفنان في تحقيقها، وبذلك يحمل ريشته بثقة على طريق الفن التشكيلي، خارجاً من ثقل اسمه إلى رحابة الإبداع.