عبد الرحمن الكواكبي
"عبد الرحمن الكواكبي"... سيرة في حب الوطن
محمد علو
ولد "عبد الرحمن الكواكبي" عام 1854م لأسرة عربية، تمتد جذورها إلى الإمام "علي بن أبي طالب" (كرم الله وجهه) من جهة الوالدين، والده "أحمد بهائي بن محمد بن مسعود الكواكبي"، أما والدة "عبد الرحمن" فهي السيدة "عفيفة بنت مسعود آل النقيب"، ابنة مفتي "أنطاكية"، وعندما بلغ "الكواكبي" السادسة من عمره توفيت والدته، فأرسله أبوه إلى خالته "بأنطاكية"، فحضنته وعلمته القراءة والكتابة واللغة التركية، وفي "أنطاكية" تتلمذ "الكواكبي" على يد عم أمه السيد "نجيب النقيب" الذي شغل منصب الأستاذ الخاص للأمير المصري "الخديوي عباس حلمي" الثاني.
ثم عاد إلى "حلب" ليتابع دراسته في المدرسة الكواكبية، وكان أبوه مديراً لها ومدرساً فيها، فتعلم مبادئ الدين واللغة العربية. ثم تلقى العلوم العصرية الرياضية والطبيعية وأتقن اللغتين التركية والفارسية تكلماً وكتابة، كما أحب قراءة المترجمات عن اللغة الأوروبية، وبعد تخرجه من المدرسة الكواكبية ونيله الإجازات وأعلى الشهادات، اشتغل بالتدريس مدة وكان عمره عشرين سنة. كتب "الكواكبي" في صحيفة "الفرات" التي كانت تحرر بالعربية والتركية، وأنشأ صحيفة "الشهباء" مع السيد "هاشم العطار"، وأخذت مقالاته النارية العميقة توقظ ضمائر مواطنيه، وتفضح الاستبداد آنذاك، فأغلقها الوالي العثماني "كامل باشا"، ولم يستسلم "الكواكبي" فأنشأ جريدة "الاعتدال"، وواصل فيها تقديم آرائه وأفكاره، لكنها هي الأخرى أغلقتها الحكومة لجرأة صاحبها في انتقاد سياستها. طبعاً كل جريدة كان ينشئها كانت تسجل باسم أحد أصدقائه.
في سنة 1879م عُين "الكواكبي" عضواً فخرياً في لجنة المعارف، ولجنة المالية في ولاية "حلب"، كما عُين عضواً في لجنة الأشغال العامة، ثم أخذت أعماله ومسؤولياته تمتد إلى العديد من اللجان والمناصب في مجموعة كبيرة من القطاعات، منها تعيينه عضواً في لجنة المقاولات، ورئاسة قلم المحضرين في الولاية، وعضوية اللجنة المختصة بامتحان المحامين. ثم أصبح مديراً فخرياً للمطبعة الرسمية "بحلب"، ثم الرئيس الفخري للجنة الأشغال العامة ثم دخل إلى ساحة القضاء عضواً بمحكمة التجارة بالولاية بأمر من وزارة العدلية العثمانية، عُين رئيساً للغرفة التجارية ورئيساً للمصرف الزراعي، ثم عُين رئيساً لكتاب المحكمة الشرعية بالولاية، وفي سنة 1896 أصبح رئيساً لكل من غرفة التجارة ولجنة البيع في الأراضي الأميرية.
افتتح "الكواكبي" مكتباً خاصاً للمحاماة، يفتي فيه أصحاب الدعاوى، ويحرر معروضات المتظلمين من الحكام لتقدم إلى المراجع العليا، ويفيد المراجعين من المحامين، ويرشدهم فيما يشكل عليهم من أحكام الأنظمة والقوانين. فأصبح مكتبه ندوة يأوي إليها المتظلمون فيدلهم على الطرق التي يتوصلون بها إلى التخلص من الظلم، ويشجعهم على رفع ظلاماتهم، ويتولى بنفسه تحرير الشكاوى المرسلة مع البريد أو البرق، ولذلك سمي في "حلب" بـأبي الضعفاء.
يعتبر "الكواكبي" رائداً من رواد التعليم، حيث دعا إلى إصلاح أصول تعليم اللغة العربية والعلوم الدينية وتسهيل تحصيلها والجد وراء توحيد أصول التعليم وكتب التدريس، وقدم الكثير من الأسس لاعتمادها في مجال التربية والتعليم، ودعا إلى فتح باب محو الأمية، وبين دور المدارس في إصلاح المجتمع. كما ركز على أهمية تعليم المرأة كي تجيد رسالتها في الحياة، كما يعتبر "الكواكبي" أحد أعلام الحركة الإصلاحية، فوجه جهوده إلى العمل الأخلاقي، وكافح العادات السيئة والتقاليد البالية، ونقد المعتقدات الفاسدة، وبذل السعي المتواصل لنشر الفضائل والتمسك بها للنهوض بأخلاق المجتمع، فقام بتشكيل الجمعيات والنوادي في القرى والمدن لتقوم بدور التوعية والتثقيف للجمهور، كما رد فساد الأخلاق إلى انحلال الرابطة الدينية والاجتماعية وفقد التناصح وغياب الأخلاق، فمما جاء في كتاب "أم القرى": «فلمثل هذا الحال لا غرو أن تسأم الأمة حياتها فيستولي عليها الفتور، وقد كرت القرون وتوالت البطون ونحن على ذلك عاكفون، فتأصل فينا فقد الآمال وترك الأعمال والبعد عن الجد والارتياح إلى الكسل والهزل، والانغماس في اللهو تسكيناً لآلام أسر النفس والإخلاد إلى الخمول والتسفل طلباً لراحة الفكر المضغوط عليه من كل جانب… إلى أن صرنا ننفر من كل الماديات والجديات حتى لا نطيق مطالعة الكتب النافعة ولا الإصغاء إلى النصيحة الواضحة، لأن ذلك يذكرنا بمفقودنا العزيز، فتتألم أرواحنا، وتكاد تزهق روحنا إذا لم نلجأ إلى التناسي بالملهيات والخرافات المروحات، وهكذا ضعف إحساسنا وماتت غيرتنا، وصرنا نغضب ونحقد على من يذكرنا بالواجبات التي تقتضيها الحياة الطيبة، لعجزنا عن القيام بها عجزاً واقعياً لا طبيعياً».
كان "عبد الرحمن الكواكبي" واحداً من المفكرين العرب الذين كشفوا عن أسباب الجمود الذي خيم على العالم الإسلامي، وقارن ذلك بحالة التقدم التي وصل إليها الأوربيون في العصور الحديثة، والتي مكنتهم من الهيمنة على أجزاء واسعة من العالم الإسلامي. قال في كتابه "أم القرى": «إن مسألة التقهقر بنت ألف عام أو أكثر، وما حفظ عز هذا الدين المبين كل هذه القرون المتوالية إلا متانة الأساس، مع انحطاط الأمم السائرة عن المسلمين في كل الشؤون، إلى أن فاقتنا بعض الأمم في العلوم والفنون المنوَّرة للمدارك، حزبت قوتها فنشرت نفوذها على أكثر البلاد والعباد من مسلمين وغيرهم، ولم يزل المسلمون في سباتهم إلى أن استولى الشلل على كل أطراف جسم المملكة الإسلامية».
ذاق "الكواكبي" صنوف المعاناة على يد الاستبداد العثماني وأعوانه، حتى لم يبق له مصدر رزق، وصار يستدين من أجل متطلبات حياته اليومية، لذلك حين عرض عليه السلطان منصب قضاء كي يبعده عن بلده "حلب" ويضعف تأثيره، تظاهر بقبوله، وسافر إلى "الأستانة" سراً، ليقوم بتحريات سرية عن أعمال السلطان وزبانيته، ويرى أنواع استبداده في عقر داره، لكن سرعان ما اكتشف أمره، ودعي للإقامة في قصر خاص بالضيافة، وقد التقى أثناء زيارته تلك "بجمال الدين الأفغاني" 1895م الذي جاء إلى "الأستانة" 1892م وبقي هناك في منـزل للضيافة تحت الإقامة الجبرية، وقد أحس "الكواكبي" بعد لقائه بالمصير المشابه الذي ينتظره، لذلك سارع بالعودة إلى "حلب" سراً.
رحل إلى "مصر" واستقر هناك وكتب في كثير من الصحف المصرية والعربية، سكن "الكواكبي" في "القاهرة" بشارع الإمام "الحسين" بالقرب من "الأزهر" ، ولقد عرف في "مصر" واشتهر أمره عندما نشر كتابه "أم القرى" الذي سمى نفسه فيه "بالسيد الفراتي"، وكان قد ألفه في "حلب" قبل سفره إلى "مصر" . ثم نشر باسم مستعار هو "الرحالة ك" في جريدة "المؤيد" القاهرية مقالات عن الاستبداد ما لبث أن نقحها وزاد عليها ، في كتاب يحمل العنوان "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".
وبتكليف من "الخديوي عباس" ليحصل على المبايعة له بالخلافة، قام "الكواكبي"، مقابل راتب شهري قدره 50جنيهاً، بجولة في "شبه الجزيرة العربية" وسواحلها و"الهند" ودول شرقي "آسيا"، وفي سواحل "إفريقية" الشرقية والغربية، دامت ستة أشهر.
وبعد عودته بثلاثة أشهر توفي ( يقال مسموماً ) مساء الخميس 14/6/1902م، ودفن على نفقة "الخديوي عباس" في مقبرة "باب الوزير"، ثم نقلت رفاته باحتفال ديني إلى مقبرة خاصة ببعض مشاهير الرجال في نهاية شارع "العفيفي" ، وقد كتب على لوح من المرمر ثبت على قبره بيتاً "لحافظ إبراهيم":
هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى ......... هـنا خير مظلـوم خير كاتب
قفوا واقرؤوا أم الكتاب وسلـموا ........ عليه فهذا القبر قبر الكواكبي.
(( المراجع: سيرة الكواكبي سعد زغلول الكواكبي - ديون العرب – دراسة للدكتورة نجوى عثمان)).