"علي الجندي": لم يعد للشعر مكان فوق الأرض
ترجل "سرّاج القوافي" وبكى لأن العالم صدمه
محمد القصير
«هذا زمان الحكايا الرديئة... وتحت فروع الفلاسفة الصيد يورق صخر الخطيئة». قالها "علي الجندي" ذلك الشاب الوسيم والأنيق الذي خرج من مدينته "سلمية" ليعانق "دمشق" طالباً في كلية الآداب قسم الفلسفة، وهو الذي أصبح فيما بعد معشوق الصبايا، اسمه غير خافٍ على رواد الشعر العربي من كتاب، و قرّاء.
أراد أن يخالف الجميع فأطلق على نفسه اسم "أبو لهب"، لأنه كان يستمتع بمخالفة الأعراف في الحياة مثلما في الشعر. فكانت قصائده حارّة، ملتهبة، غير رحيمة، إنه الراحل الكبير "علي الجندي" والذي برحيله "لم يعد للشعر مكان فوق الأرض" على حد قوله.
موقع eSyriaوفي ذكرى غيابه يقدم نبذة عن تاريخ هذا الشاعر الكبير، والملأى بالقصائد، والدعابات الضاحكة، والساخرة.
عندما وافته المنيّة في مدينة "اللاذقية" صرخ الشاعر الكبير "شوقي بغدادي "فقال: «مَن يرثيني بعدك؟.. لم يكن موتك يا "عليّ" مفاجأة».
لكنه لم يكن يخشى شيئاً، حتى الملل الذي سأله عنه "نبيل صالح" لم يكن ليخشاه، فأجابه قائلاً: «اسمع.. هناك أسطورة تؤكد على أن الملل هو السبب في تطور الحياة!! تقول الأسطورة: إن الملل أصاب الآلهة فخلقوا الإنسان.. وأصاب الملل "آدم" لأنه كان وحيداً فخلقت "حواء"، وهكذا دخل الملل في العالم، وازداد بقدر ازدياد عدد السكان.. وكان "آدم" في ملل وحده، ثم أصاب الملل "آدم" و"حواء" معاً فأنتجوا أولاداً للتخلص من هذا الملل.. ثم أصاب الملل "آدم" و"حواء" و"قابيل" و"هابيل" كأسرة.. ثم ازداد عدد سكان العالم فأصبح المجموع في حالة ملل بالجملة، كجماعة».
ولكن الصحفيين وحدهم أشعروه بالملل، فقال: «مللت من أولئك الصحفيين الذي يسألونني عن تاريخ ولادتي، واسم مدينتي، وشهاداتي، وأسماء مؤلفاتي، ووزني أيضاً، وما أرجوه هو ألا يسألونني عن تاريخ وفاتي».
لكنه يرى في الحب سجناً كبيراً، وها هو يقول: «عندما تحبك المرأة أكثر مما ينبغي يصبح حبها سجناً لك.. وأنت كرجل معشوق تنتقل من ملكية الأم إلى ملكية الزوجة.. ما أغبانا ونحن الذين نظن أننا نحرك العالم! إنما النساء هن اللواتي حركن التاريخ. ولو أردت دراسة التاريخ لبحثت في سيرة زوجات السلاطين والفاتحين وعشيقاتهم».
ويضيف: «كانت أمي تسرّح لي شعري وتزرر لي قميصي، تقبلني ثم تربت على ظهري: (هيا إلى المدرسة يا حبيبي).. أيضاً زوجتي كانت تفعل الشيء نفسه قبل ذهابي للعمل.. أيتها النساء لقد تعبنا من حبكن».
كما ويرى في نفسه شبيهاً لـ "زوربا اليوناني" وهو يقول في هذا الصدد: «إني أشبه بـ"زوربا" الذي كان يسكن روح "كازانتزاكي" من ذاك الـ"زوربا" الواقعي الذي عاش معه في "جزيرة كريت"».
وأصبح في الستين من عمره، لكنه لما يزل يحب اللهو كطفل ما زال يركض في شارع "سعن الجندي" حيث بيت العائلة، وهنا يقول: «أنا أكبر من أن يرضيني اللعب واللهو، وأصغر من أن أحيا بلا رغبات.. كلما تقدّمنا في العمر تعلقنا بالحياة أكثر وعرفنا قيمتها.. وأنا لا أستطيع أن أعزف عنها عندما تهتز أمامي بكعب عال وساقين ممشوقتين.. كلما ابتعدت عن الماء عرفت قيمته أكثر».
فكتب يقول: «وأمضي، أنقل خطوي برفق خلال المدينة/ إذا لاح طفل يحدق فيّ، يخيل لي أن أمسي يلوح بعينيه أحزن/ يوقظ آلام عمري الدفينة، مررت على كل شيء قديم وصار يهلّ عليّ نشيد المطر/ لقد جمد اللحن في خاطري.. وأمسى جنون شبابي حجر!!».
لكنه يقف أمام الزمن كعدوين يتربص أحدهما بالآخر، لكنه يعترف بما يشبه الهزيمة، لأن الزمن يبقى في تجدد بينما يسير هو إلى شيخوخة تصل به إلى القبر، فيقول:«الزمن هو عدوّي ـ يدوس جسدي مخبّصاً عليه بقدميه الحافيتين ـ ويجعلني أشيخ وأموت ـ الموت لا أخافه ولكــن أن نشـيخ ـ هو العار بذاته».
وبذلك فقد استطاع الشاعر الراحل "علي الجندي" أن يدخل المشهد الشعري العربي من بابه العريض، خصوصاً إثر المقولات النقدية التي اعتبرت ديوان "الراية المنكسة" بمثابة استشراف وقراءة مختلفة للواقع العربي، تميز بها الشاعر خلال سلسلة إصداراته الكثيرة التي دفعت به كأحد رواد القصيدة الحديثة، ومن أصحاب الرؤيا المغايرة في الاشتغال على اللغة، والخيال والموضوع. وهو يقول: «كان نهر البكاء ينساب من أول الحقل المدمى إلى مشارف أهلي.. كنت من كوة الغيوب مطلاً، وعلى وهجها المريع.. أصلي».
ولكنه وجد نفسه غريباً، وهنا يقول: «"محمد الماغوط" و"فايز خضور" و"أنا" مثلهما، جميعنا غرباء باتجاه أرض الشهوات والحب والكتابة الموجعة.. لا يغيب عني صوت وشعر "فايز خضور": / قدر النوارس أن تبيض فراخها بين السفائن/ لا البحر يعرفها ولا خشب الصواري/ نغّصت جلجانها صيغ المرارة في البراري».
ـ ولد "علي الجندي" في "سلمية" عام 1928.
ـ تخرج في "جامعة دمشق" - قسم الفلسفة عام 1956.
ـ عمل في حقل الصحافة الثقافية ما بين "دمشق" و"بيروت".
ـ عمل مديراً عاماً للدعاية والأنباء - في "دمشق"، وفي حقل الترجمة عن الفرنسية ولم يحترفها.
ـ من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب 1969م.
ـ عضو جمعية الشعر.
من مؤلفات الشاعر "علي الجندي":
1- الراية المنكسة - شعر - بيروت 1962.
2- في البدء كان الصمت - شعر - بيروت 1964.
3- الحمى الترابية - شعر - بيروت 1969.
4- الشمس وأصابع الموتى - شعر - بغداد 1973.
5- النزف تحت الجلد - شعر - اتحاد الكتاب - دمشق 1973.
6- طرفة في مدار السرطان - شعر - اتحاد الكتاب - دمشق 1975.
7- الرباعيات - شعر - بيروت 1979.
8- بعيداً في الصمت قريباً في النسيان - شعر - بيروت 1980.
9- قصائد موقوتة - شعر - بيروت 1980.
10- صار رماداً - شعر - اتحاد الكتاب - دمشق 1987.
11- سنونوة للضياء الأخير - شعر - بيروت 1990.
ــ توفي في مدينة "اللاذقية" في العام 2009.
ــ احتضنه تراب "سلمية" يوم السبت 8 آب 2009.