هناء طيبي: الكتابة الجمالية مقومة للنضوج والتحضر الإنساني
علاء الجمّال:
عن دار "طلاس" "بدمشق" للدراسات والطباعة والنشر، صدر حديثاً للعام 2008 للباحثة السورية "هناء طيبي" موسوعة من المحاورات و الدراسات الانطباعية حول الفن التشكيلي السوري "بحلب"، فترة ازدهاره ما بين عامي 1983ـ 1997 تحت عنوان "ومضات تشكيلية".
تتألف الموسوعة من 238 صفحة من القطع الكبير من بينها جزء اختصته الباحثة بعرض صور فوتوغرافية لأعمال الفنانين التشكيليين المحليين والقادمين من الخارج، نذكر منهم الراحلين السوريين: "فاتح المدرس، لؤي كيالي". والمعاصرين: "نذير نبعة، يوسف عقيل، مانينا سيوفي، وفاء الخطيب". ومن "لبنان: بول غيراغوسيان، جوليانا ساروفيم". ومن "مصر: محمد الحديدي، ناصر السومي". ومن "فرنسا: ماري آن ـ مايكا". ومن "اليابان نوريكوتوما".
لم تقف الباحثة "طيبي" في موسوعتها هذه عند حدود معينة في قراءة اللوحة التشكيلية بل تجاوزت ذلك إلى خلق لغة بصرية غنية التركيب اللفظي، متوائمة مع اختيارات الفكر لنظريات التحليل التوصيفي لحركة اللون والتكوين واللمسات الإبداعية بما في ذلك أسلوب العمل والأبعاد.
هذا الغنى في الطرح الانطباعي للمشاهدة المباشرة للعمل الفني سواءً في النحت أو الخزف أو التشكيل، يضعنا أمام حلقة مفتوحة من التطلعات الإنسانية المختزنة في ذاكرة باحثة عن الجمال، قادرة على الخلق والإيحاء والإيجاز بما يخدم الموضوع، ويمنحه أبعاده في تصور وصفي ليس مثقلاً بالمفردات الصعبة أو المعقدة.. بل ينحو بتركيبته اللفظية إلى رهافة الشعور الحسي في تذوق مكنونات البصر في العمل التشكيلي.
وتقول الباحثة في حديث أجرته معها المفكرة الثقافية في 27/11/2008، حول اختيارات الرؤية في الشكل وتقديمها لفرضية النقد الفني، وذلك أثناء لقائها بصالة "السيد" للفنون الجميلة "بدمشق": «إن دراسة درجات الظل والنور، وكيمياء اللون المركب، وخصائص الخامات المستخدمة في اللوحة، تحدد مقامات الفنان الإبداعية، وتغني اختياراته لرؤية الشكل من حيث التقنية والعمق والتأثير.. وتخلق أمام الناقد مهداً للنظريات الإبداعية المفترضة، المستخلصة من تفاعل العين المتأملة مع مكنيات الجملة البصرية في اللوحة أو المنحوتة أو العمل الخزفي، وهنا تبدأ محدودية الرؤية بالاتساع، والامتداد نحو الخيال والديمومة والبقاء..».
وتضيف: «عند اجتماع هذه المقومات يصبح الناقد رهناً لانبعاثات الكلمة من المتخيل والتحليل الناتج عن افتراضيات البعد اللوني، والغاية في الشكل والأسلوب، فكلما تماسكت عناصر النقد الفني، واتخذت التوجهات الفكرية المعقولة في تحديد الحكم والنقلة إلى النقاط الأخرى في العمل، أخذت الكلمة فعلها في التوصيف النقي القادر على خلق متعة التأمل، والتغيير دون الاحتداد من مزاجية الناقد واختياراته للرأي..».
وحول البدايات مع الكتابة التشكيلة، تقول "طيبي": «أخذت الكتابة التشكيلية من حياتي عقداً من الزمن، انغمست في أبعادها بكل ما أتيح لي من اجتهاد، متابعة للمعارض الشخصية والمشتركة، وما تتضمنه من إبداعات إنسانية وجمالية مساهمة في الندوات والمحاضرات الخاصة بعلم التشكيل، سعياً مني لخلق الجديد في هذه اللغة، والتأكيد على أهميتها في التعريف بالفن الجميل، وتأكيد وجوديته وقدرته في إيجاد النضوج المعرفي والتحضر الإنساني».
وفيما يتعلق بنهضة الحركة التشكيلية في "حلب"، تضيف: «كان ذلك بين عامي 1983 و1997 شهدت خلالها الحركة الفنية "بحلب" ازدهاراً مذهلاً على كافة المستويات المجتمعية والثقافية، فبدأ الفنان التشكيلي عبرها يأخذ دوره في تقديم رسالته البصرية، والكشف عن أفكاره وآرائه حول الفن وانعكاسه على المجتمع، وهذا ما جعله غزيراً في نتاجه، نشيطاً في إقامة معارضه، وذلك أدى إلى زيادة الصالات الخاصة للفنون.. وإيجاد حضور جماهيري لافت لها».
وفي هذا السياق تأتي موسوعة "ومضات تشكيلية" كشاهد على نهضة الفن في تلك المرحلة، والإرث الفني الذي بقي منها، وهنا تقول "طيبي": «لم تقف الصالات في "حلب" عند إبراز الفن السوري وحسب، بل وسعت أفقها وقدمت تجارب لفنانين وافدين من دول عربية وأجنبية، أفادوا من تاريخها كحضارة خالدة، ووجدوا في رحابها احتضاناً لهم ولأعمالهم، فكانت تلك المرحلة نهضة قوية للفن، دخلت بعد ذلك فترة ركون وصمت لم أجد عزاءً لها سوى تقديم هذه الموسوعة للمكتبة العربية، تحية مني لحقبة من الزمن كانت ذهبية حقاً».
مكنونات المفارقة بين الخطيئة والمعرفة
"نذير نبعة" من الفنانين الأكفاء في "سورية"، تقول عنه الباحثة في موسوعتها: «يرسم "نذير نبعة" شخوصه بواقعية مبدعة، تتجاوز الواقع المرئي إلى اللاوعي في عالم التـأمل الداخلي، فألوانه الشفيفة وسطوع رؤيته التكوينية في العمل التشكيلي تحدث يقظة من عالم مستسلم لما يرى ويحس إلى عالم جديد تسوده النظرة الإنسانية القادرة بعمقها أن تخلق التحول في الفكر والمصير، بل إنها تجسيد لنبع أسطوري يحمل في مكنونه المفارقة بين الخطيئة والمعرفة، والتجرد من القشور الدنيوية».. هذا التمازج البهي توضحه لنا لوحته "عازفة الناي بين مفاتن الزهور واللازورديات السماوية".
أما رأيها بأعمال الراحل "لؤي كيالي"، أخذ منحى التحليل لشخصيته والغموض الذي كان يحيطها، متسائلة: «لا أحد يفهم ذاك الصمت الرهيب الذي سكن "لؤي كيالي" في سنواته الأخيرة؟.. إنه صمت روحي ينطق بين مفردات اللوحة، التي وهبها وحدانية وجوده الساكن، يحرره ألواناً كثيفة محددة في خطوط لينة الحركة تحدد الشكل في معالمه الرئيسية، فتبدو فسيفسائية معاصرة تحكمها قوانين ومفردات بصرية جديدة».
وحول أعمال الفنانة السورية "مانينا سيوفي"، تقول: «عبر إيحاءات اللون والرؤية تعيدنا أعمال الفنانة "مانينا سيوفي" إلى جوهرة الحب والجنس المشبعين بأحاسيس نبيلة، وأصالة مفهوميهما في استمرارية الوجود والتوالد الإنساني. وكليهما يقومان على الخير والجمال، "فمانينا" خريجة أكاديمية الفنون الجميلة في "فينيسيا" تساير في تعبيريتها فلسفة الحكيم اليوناني "أرسطو طاليس"، بقوله: «إن الخير والجمال يتوحدان في الحب، مكنون التوازن والدفء في العلاقات الإنسانية».
وخلال محاورة أجرتها "طيبي" مع الفنانة اللبنانية "جوليانا ساروفيم"، سجلت لها رأياً، تقول فيه "ساروفيم": «إنني شرقية، عشت في "باريس" خمسة عشر عاماً، كنت فيها دائمة الحنين إلى الشرق لأنه عمقي الداخلي، وكلما حملت ريشتي، سيطرة تلك المفاتن على إبداعي وانبثقت في عمق تكويناتي.. فمن الشرق أستوحي رؤيتي وأبدع ما أريد، و"حلب" جزء لا ينفصل من هذه الرؤية».
عمل يستحق الثناء والتقدير
حول الموسوعة،يقول الفنان التشكيلي السوري "ممدوح قشلان":«الفن التشكيلي: هو العزف على أوتار الشكل واللون، أي أنه يتذوق عن طريق التأثر الحسي عند الرؤية المباشرة للعمل للفني، سواءً كان لوحة أو زخرفة أو نحت.. والحديث عن روائعه وانعكاساته لفظياًً أو عبر الكتابة التشكيلية فيه من الصعوبة الكثير. أما الإقدام على تأليف موسوعة كهذه، تضم محاورات وقراءات انطباعية لأعمال الفنانين.. عمل بالغ الأثر ويستحق الثناء والتقدير».
ويضيف: «موسوعة "ومضات تشكيلية" للباحثة "هناء طيبي"، لا يخرج عن هذا الإطار، بما يضم من مقالات تقديم وتعريف وتحية لمجموعة من الفنانين السوريين والأجانب، تحاورت معهم الباحثة "طيبي"، وأفصحت عن مشاعرها وانطباعيتها نحوهم بوصف سردي أنيق، يحمل التخيل والتعبير الفضي الجميل».
في سطور
ولدت الباحثة "هناء طيبي" في "حلب"، عملت في الإعلام المحلي فترة تجاوزت 15 عاماً، متخصصة في منحى التشكيل والنقد الفني، لها مؤلفات تحت الطبع، مثل: "كوليات الخوري" إنسانة وأديبة، الراحل "عبد السلام العجيلي" دراسات، حوارات في الفن والأدب..